تأثيرات المسلمين في الحضارة الغربية, الاسـلام والغرب - عبد الرحمن بدري

 
ثمة قصص شعبي ألماني انتشر انتشاراً واسعاً جداً وترجم إلى اللغات الكبرى ولا يزال أروج القصص الشعبي انتشارا في العالم حتى اليوم, ونقصد به "حكايات الأطفال والبيت" للأخوين يعقوب (1785 _ 1863) وفلهلم جرمّ (1786 _ 1859) التي صدرت الطبعة الأولى منها في سنة 1812 (الجزء الأول) وسنة 1815 (الجزء الثاني)، ثم توالت طبعاتها في حياة المؤلفين حتى بلغت الطبعة السابعة في سنة 1857، ونمت من طبعة إلى طبعة. فبعد أن كان عددها في الطبعة الأولى بجزئيها 161 وصلت في الطبعة السابعة إلى 201. وكانت الطبعة الأولى تعتمد على مصادر شفوية إذ استمدت من أفواه عامة الشعب، وكانت مصادرهما الأولى ذكريات الحكايات التي كانت تروى لهما في الطفولة وحكايات الناس بسذاجتها ونضارتها الأولية, لكنهما لجأ بعد ذلك إلى مصادر كتابية، وكانا يرويان هذه الحكايات بروايات من عندهما، ومن طبعة إلى أخرى كانا يعدّلان ويصحان في الأسلوب والقصِّ، ويحذفان البعض، ويضيفان البعض الآخر، ويعيران في الأسلوب باستمرار. وقد درس هذه التغييرات أرنست تونلا، في بحث فيلوجي نقدي ممتاز بعنوان: "حكايات الأخوين جرم: دراسة في الإنشاء والأسلوب لمج موعة حكايات الأطفال والبيت" (باريس سنة 1912).
وقد اعترف المؤلفان في التعليقات على هذه الحكايات أنهما استمدا من ألف ليلة وليلة، أصول ثمانٍ من هذه الحكايات وهي: 1 _ الصياد وزوجته (رقم 19)، 2 _ الماكر وسيده (رقم 68)، 3 _ ستة يذرعون الدنيا (رقم 71)، 4 _ جبل الذهب (رقم 92)، 5 _ الطيور الثلاثة (رقم 96)، 6 _ عين الحياة (رقم 97)، 7 _ الروح في الزجاجة (رقم 99)، 8 _ جبل سملى (رقم 142)،. وهذه الأخيرة مأخوذة من حكاية علي بابا والأربعين حرامياً، وتحكي أن أخا فقيراً سمع الصوص وهم ينادون: "يا جبل سمسى، أفتح" فانفتح جبل ملىء بالكنوز، ويغلقونه بقولهم: "يا جبل سمسى، أغلق". وعن هذا الطريق صار الأخ غنياً بأن استخدم نفس الجملة. وراقبه أخوه الحاسد له، وفتح الجبل، لكنه لم يستطع الخروج، لأنه نادى: "سملى، سملى" بدلاً من "سمسى"، وقتله اللصوص، وكلمة "سمسى" هي كلمة "سمسم" العربية، والعبارة هي: "افتح يا سمسم" المشهورة في حكاية "علي باب والأربعين حراميا".
لكن الأمر لم يقتصر على هذه الحكايات الثماني, بل قام الباحثون من بعد، وقارنوا مصادر الحكايات، وعلى رأسهم ر. كولر وفكتور شوفان، وي، بولت وجاستون باريس وا. كوسكان وا. فسلسكى. واكتشفوا أن عددا كبيراً آخر من حكايات الأخوين جرم يرجع إلى مصادر إسلامية. ولخص يوهان بولت و. ج. بوليفكا الأبحاث التي أجريت في هذا الميدان في تعليقاتهما على حكايات الأخوين جرمَّ ( ج1، 5، ليبتسك، سنة 1913 _ 1932). وجاء فرانتس فون در لاين في نشرته الممتازة لهذه الحكايات، وقرر أن اثنتين وعشرين من هذه الحكايات ذوات أصول شرقية. ولما كانت "ألف ليلة وليلة" لم تكن قد ترجمت إلى الألمانية بعد، فإن الباحثين قد مالوا إلى افتراض وجود ترجمة أسبانية قديمة منذ القرن الثالث عشر أو بعده بقليل هي التي أثرت في منشأ هذه الحكايات التي انتشرت انتشارا واسعا في أوساط عامة الناس، وصارت قصصاً شعبية ألمانية تتناقلها أفواه الناس ومن أفواههم إلتقطتها الأخوان جرِمّ. ومن الأمور الخليقة بالبحث أن ننظر في تطور هذه الحكايات من الرواية التي هي عليها في "ألف ليلة وليلة" إلى الصورة التي صاغها الأخوان يعقوب وفلهلم جرِمّ.
ولما كانت هذه الحكايات قد انتشرت انتشاراً هائلاً في ألمانيا وخارجها وفي سائر بلاد العالم، وكانت المعين الأول الذي يمتتح منه الشباب الأوروبي, حتى أنها لتعد من أعظم الأحداث الأدبية في تاريخ الأدب الأوروبي الحديث, وأثارت مساجلات عنيفة بين صاحبهاوبين برنتانو وفون أرنم اللذين أصدرا مجموعة مشابهة بعنوان "البوق الذهبي"، حول الصياغة الفنية والشعر الفني والشعر الشعبي _ فإن هذا يدل على ما لبعض القصص الشعبي الإسلامي من أثر بالغ في الأدب الأوربي، وفي تكوين الثقافة الأدبية والفنية للشباب الأوربي.
ومن القصص الأخرى المستمدة من "ألف ليلة وليلة" نجد:
1 _ أولا قصة هرفيزدي متز وهي أنشودةِ فعال (ملحمة بطولية) بطلها هو هِرْفيزدي متز, أنشئت في نهاية القرن الثاني عشر كان أبوه من عامة الناس، وأراد أن يجعل منه تاجرا فبعث به إلى المواسم والأسواق، لكن الفتى أنفق كل أمواله في الاحتفال وشراء أدوات الصيد والخيل والسلاح. وفي "لانى" بالقرب من باريس، خلص الأميرة بياتركس بنت ملك صور، التي اختطفها بعض السواس وأتوا بها إلى فرنسا لبيعها. ثم طرده أبوه من مدينة متز، فتزوج بياتركس. وأصابه الفقر المدقع، فرحل إلى صور وهو يحمل تطريزا من شغل بياتركس يمثل أباها وأمها وابنته هو منها. فاشترى ملك صور هذه التحفة باثنين وثلاثين ألف مارك، وهكذا عاد هرفيز غنياً إلى وطنه بعد أن رحل منه فقيراً. فلما وصل متز احتلفبه الجميع، وكذلك احتفى به دوق اللورين العجوز بعد أن عاد من البلاد المقدسة وسلحه فارسا. ومن هنا تبدأ سلسلة طويلة من المغامرات: إذ يختطف أهل بياتركس ابنتهم، لكن زوجها يستعيدها ويبرز هرفيز في مغامرات عظيمة مدهشة. وصار دوقا لاقليم اللورين، وأيد شارل مارتل ضد جيرار دي روسيون، ووقف زحف الوندال وهزمهم وخلص مدينة متز. ثم رحل إلى الأراضي المقد سة بصحبة بياتركس ناشدين تمضية بقية العمر في تلك الأراضي. وتركا وراءهما في متز ابنيهما جاران وبيج. وقد صار جاران هذا بطلا لملحمة بطولية أخرى تتمم ملحمة "هر فيز دي متز".
وقد جاء ل. جوردان في مقال له بمجلة "محفوظات دراسات اللغات الحديثة" (ج 114، ص 432 _ 440) فأثبت أن ثم تشابها لا شك فيه بين حكاية "هر فيز دي متز" وحكاية نور الدين في "ألف ليلة وليلة".
2 _ كذلك قصة "الدوق أرنست", وقد أنشئت في القرن الحادي عشر، تبين أن مصدرها شرقي إسلامي هو "ألف ليلة وليلة". إذ يرى فكتور شوفان أن كل ما جرى من مغامرات للدوق أرنست وهو في رحلة في الخارج مستمدة م حكاية "أمير خوارزم", كما أن جوردان يرى أن بينها وبين رحلات السندباد (السادسة، وبعض الثانية) علاقة وثيقة. ولهم مصهر تحت الأرض، وإليهم ينسب بناء كل الأبنية التاريخية العتيقة في اليونان وصقلية). وساعدوا هؤلاء الجن على محاربة المردة وأصحاب الأقدام الممسوحة. وأخيراً وصلت الجماعة إلى بابل, وذاعت شهرة مغامراتهم حتى وصلت إلى ألمانيا. وهنالك توسلت أم أرنست إلى الإمبراطور ليصفح عن أرنست، فصفح عنه، وعاد من منفاه.
وبمقارنة تفاصيل هذه الملحمة نجد تشابها شديدا بينها وبين رحلة السندباد السادسة وبعض تفاصيل الرحلة الثانية. النسر وخاف، وطار إلى الجو, ففككت نفسي من الذبيحة".
والمغامرة الرهيبة في البحر وما وقع للسفينة عند اصطدامها بالجبل، ترويها السفرة السادسة من سفرات السندباد البحري هكذا" النهر وأسير به: فإن وجدت لي خلاصا أخلص وأنجو بإذن الله تعالى، وإن لم أجد لي مخلصاً أموت داخل هذا النهر احسن من هذا المكان. وصرت أتحسر على نفسي. ثم أني قمت وسعيت فجمعت أخشابا من تلك الجزيرة من خشب العود الصيني والقماري، وشددتها على جانب البحر بحبال من حبال المراكب التي كسرت؛ وجئت بألواح مساوية من ألواح المراكب، ووضعتها في ذلك الخشب، وجعلت ذلك الفلك على عرض ذلك النهر أو أقل من عرضه. وشددته شدا طيبا مكينا. وقد أخذت معي من تلك المعادن والجواهر والأموال واللؤلؤ الكبير الذي مثل الحصى وغير ذلك من الذي في تلك الجزيرة، وشيئاً من العنبر الخام الخالص الطيب ووضعته في ذلك الفلك، ووضعت فيه جميع ما جمعته من الجزيرة وأخذت معي جميع ما كان باقيا من الزاد. ثم أني ألقيت ذلك الفلك في هذا النهر.. وسرت بذلك الفلك في النهر وأنا متفكر فيما يصير إليه أمري... ولم يزل سائراً بي.. حتى استيقظت فوجدت نفسي في النور؛ ففتحت عيني فرأيت مكانا واسعاً؛ وذلك الفلك مربوط على جزيرة، وحولي جماعة من الهنود والحبشة".
وهذه الأحداث في خطوطها العامة هي بعينها التي ترويها ملحمة الدوق أرنست, مما يقطع بأن هذه الملحمة أخذت كلها عن أسفار السندباد البحري في "ألف ليلة وليلة".
---------------------
المصدر : "دور العرب في تكوين الفكر الأوربي