الفولكلور الفلسطيني تعبير عن الهوية الوطنية - د. نمر سرحان

 

مدخل 
كان الفولكلور الفلسطيني واحداً من اهم العوامل التي جعلت الفلسطينيين يستكشفون ذاتهم الوطنية، ويشعرون بهوية متميزة. اما العوامل الاخرى فكانت : 
1)- ظهور حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين 1922 - 1948، والتي اعطت البلاد شكلاً جيو سياسياً يمتد من رفح الى الناقورة ومن يافا الى اريحا .  
2)- الهجمة الصهيونية على فلسطين، التي تمثلت في الهجرة اليهودية التي بدأت تتصاعد منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وما رافقها من اعلان بريطاني على ان البلاد هي "وطن قومي لليهود" والرد الوطني الفلسطيني على الهجمة والذي جاء في سياق ما اسماه ارنولد توينبي، في كتابه دراسة للتاريخ: "حسنات الاحوال المعاكسة". ذلك ان الهجمة الغربية الوحشية على البلاد، والتي تمخضت عن قيام اسرائيل، وطرد السكان العرب الفلسطينيين، حفزت الشعب الفلسطيني على المقاومة ورفض الاحتلال، ومصادرة الاراضي، واعطتهم، فوق كل شيء، الشعور بالهوية الوطنية المتميزة عن باقي اقطار الوطن العربي . 
وهكذا كان الوعي بالتراث الثقافي الشعبي (الفولكلور) وظهور الوضع الجيو السياسي المتميز (حكومة الانتداب) على قطعة ارض محددة ومقاومة الغزو الصهيوني، ابرز العوامل التي تضافرت لتشكيل الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، وفي مرحلة تاريخية معينة، تفاعلت هذه العوامل مع بعضها البعض، وتداخلت ليشكل الشعور بها جميعاً، شعوراً بتوحد الهوية الفلسطينية. ذلك انه بعد الهزيمة المنكرة، التي مُني بها العرب بعد حرب عام 1967 بدأت تتولد مشاعر وجدان جمعي شعب فلسطيني" في المحاور التالية :
1)- هزيمة العرب في الحرب انهت التواكلية الفلسطينية على الامة العربية والتحرير. 
2)- الاحتلال اعاد توحيد اراضي الثمانية واربعين، واعاد لفلسطين وحدتها الجغرافية (تحت الاحتلال) وتماس عرب الداخل مع عرب الضفة، وبمقدار اقل مع عرب الشتات الذين اصبح بامكانهم ضمن ظروف معينه القدوم الى فلسطين .  
3)- رافق ذلك عملية الاستقراء السياسي(1) للفولكلور الفلسطيني، الذي يتم لاول مرة في تاريخ الفولكلور الفلسطيني، وقام به الكاتب الحالي لهذه الدراسة، وان كان قد اشار له بصورة غامضة باحثون فلسطينيون، ومستشرقون، ربطوا بين الفولكلور والجغرافيا ولم يربطوا بين الفولكلور والهوية الوطنية. يستثنى من ذلك اشارة وردت في اعمال توفيق كنعان، في مقدمة كتابه المزارات الاسلامية في فلسطين عندما قال :  
"وانا كإبن لهذه البلاد ارى من واجبي ان ادرس فولكلور فلسطين، قبل ان تتمخض التغييرات المعاصرة عن ضياعه وتبدده" (2).
صاص، واخذ يتأمل نفسه باعجاب .
- خلع ثوب اللاجئ . 
- ارتدى ثوب الفلسطيني الذي يحلم بكيان مستقل ودولة .
- بدأ يراجع مكونات ذاته الوطنية، ويعيد انتاجها بشكل جديد .
على سبيل المثال نقول ان اغاني زفة العريس كانت تتضمن مقطعاً يقول :
يا ام العريس وزغرتي 
تم الهنا بحضورنا
وقد اعيدت صناعة الاغنية من جديد لتقول : 
يا ام الشهيد وزغرتي
كل الشباب اولادك
يا اخت الاسير تمردي 
الموت ولا المذلَّةِ 
لقد استوعبت الاغنية الشعبية، بقالبها اللحني التقليدي، فكر المرحلة(مرحلة المقاومة) فأخذت تنتقل من الحديث عن عرس، وفرح عائلة وهناء جماعي لمحتفلين، وتتناول قضية حركة مقاومة واستشهاد واسر وتمرد ورفض مذلة. حالة النهوض التي شهدها الشعب الفلسطيني، ولجوؤه للكفاح المسلح، استلزمت استلهام الفولكلور، المعبر عن الشخصية الوطنية، لانتاج نصوص ذات سوية ارقى، وتطوير اللحن في الاغنية الشعبية، ووسيلة تعميم اكبر من حفل العرس (اذاعة)، لخلق وجدان جمعي شعبي متعاطف مع الثورة. الظاهرة الجديدة يمكن تلخيصها فيما يلي : 
"ان الشعب بحاجة لوعي مميزات ذاته الوطنية، من اجل ان يتحد تحت راية، شعار، هوية وطنية الخ اثناء خوضه معركة تحرير ارضه. الهوية الوطنية موجودة، ولكن احداً ما لا يتحدث عنها، هناك ادبيات شعبية وزي متميز، ومعتقدات مشتركة، وملامح فولكلورية معروفة. وجاء ظرف تاريخي محدد يساعد على اصدار الاعلان الوطني العفوي عن استعادة الفلسطيني هويته الاصلية. هذا الظرف تمثل في الهزيمة المنكرة التي منيت فيها الجيوش العربية في حرب حزيران، وخاصة جيش مصر، وسياسة عبدالناصر القومية، المنادية بتحرير فلسطين. لقد استخلص الفلسطينيون العبر من كل ذلك : 
- ان العرب لم يعد بوسعهم تحرير فلسطين . 
- ان الفلسطيني يجب ان يأخذ بيده زمام قضيته . 
- ان مكونات الذات الفلسطينية موجودة (في الفولكلور، بما في ذلك التصميم على التحرير، كعقيدة شعبية راسخة) . 
وبالتالي صدر الاعلان عن الهوية الفلسطينية المحددة في شكل ظاهرة تجمع بين المقاومة واستعادة الذات. ومعنى ذلك، بالضبط ان الشعب استعاد ذاته الوطنية، ودافع عنها بالسلاح، على شكل اطلاق النار على الاحتلال في الداخل، وبناء "الغيتوات" الفلسطينية في المخيمات المحروسة بالسلاح الفلسطيني في المنفى. كل ذلك ساعد على الارتقاء بالفن الشعبي ليكون قادراً على طرح الهموم الوطنية، وتوضيحها، واقناع الجماهير بها، لتلتف حولها. ذلك ان مرحلة النهوض الوطني، تشمل في طياتها حالة من النهوض الفني المدفوع بتنامي الشعور بحالة معنوية عالية، ولذلك وجدنا ان "الفولكلور الفلسطيني" الذي عبر عن الشخصية الوطنية في زمن المقاومة بين 1/1/1965 و13/9/1993 (من انطلاقة الثورة الفلسطينية الى توقيع اتفاقية اوسلو) هو ارقى واكثر ابداعاً، واكثر وضوحاً واكثر صدقاً من النتاجات الفولكلورية الفلسطينية التي سبقته، (3) والتي تلته. النتاج الفولكلوري في الفترة ما بين 1948 - 1965 كان غامضاً وحائراً وحزيناً ليعبر عن انكسار الشعور بالهوية بعد ان انشطرت فلسطين الى جزء محتل اسمه: اسرائيل. وجزء اخر ملحق بالاردن اسمه "الضفة الغ ربية" وجزء تحت الادارة المصرية عُرف بـ "قطاع غزة". فولكلور هذه المرحلة عبر عن الشوق والحزن والانكسار، ليس اكثر. اما فولكلور المرحلة الاسبق والتي يمكن ان نحددها بزمن الانتداب البريطاني على فلسطين (1922 - 1948) فقد كان ا
لفولكلور يعبر عن عنفوان الشخصية الوطنية الفلسطينية، بوضوح ابان الفورات والثورات، وحالات النهوض الوطني، وخلال الانتفاضات: 1921، 1929، 1934، 1936، ثم يخبو دور الفولكلور في التعبير خلال سنوات الهزيمة والتراجع . 
ان الشعور بالهوية الوطنية، قد رافق الانسان الفلسطيني منذ ان بدأ وعيه بهوية متميزة مع العقد الثالث من هذا القرن. وكان التعبير الابداعي الشعبي الفلسطيني يعبر عن هذه الهوية في ظروف محددة، وعندما يمتلك الشعب الادوات الضرورية للجهر بما يشعر به، ويمتلك القدرة على الدفاع عن مشاعره. بالضبط وصف ابو هشام الجلماوي ذلك في هذه الطلعة : 
المد الثوري ف كل بيت 
حتى اللي ساكن الكويت
لولا الثورة ما غنيت
ولا يمكن يسمحوا لي (4)
اشكال التعبير
كيف عبر الفولكلور الفلسطيني عن الشخصية الحقيقية للشعب الفلسطيني؟ ذلك هو السؤال المهم الذي تحاول هذه الدراسة الاجابة عليه. وبالتالي كيف ظهرت شخصية هذا الشعب في الابداعات الشعبية. من اجل التدقيق في هذا الامر، فقد قمنا بفحص اغاني المقاومة عبر الفترة الزمنية الطويلة الممتدة من ثورة يافا 1920 وحتى الوقت الحاضر، مروراً بالثورات الفلسطينية والانتفاضات المتلاحقة حتى نكبة عام 1948، وبعد ذلك خلال سنوات الحزن والانتظار حتى قيام الثورة الفلسطينية المعاصرة وانطلاقتها الاولى مع بداية عام 1965، وما رافق ذلك، وتبعه من ذلك السجل الطويل للنضال الوطني. لقد قمنا بدراسة اشكال التعبير الفولكلوري عن المراحل النضالية المختلفة، في محاولة للوصول الى حملة من الاستنتاجات فيما يتصل باستنطاق النصوص الفولكلورية وكيفية تعبيرها عن الطريقة التي كانت ومازالت تفكر فيها الجماهير، وحقيقة نظرتها لما جرى لها واصابها، فيما يشكل المميزات الفكرية للناس كما تنعكس في ابداعاتهم الشعبية .
يترسخ في الذهن الشعبي الفلسطيني شعور عميق بأن فلسطين هي الارض المقدسة، التي جُبلت بدم الشهداء الذين حرروها من الحكم الروماني في زمن الفتح الاسلامي. وهي نفس الارض التي حررها الشهداء الابرار، والقادة الغرالميامين من قبضة التتار، وغزوات الصليبيين، وحافظوا على ميزاتها العربية والاسلامية. ويرى المواطن الفلسطيني المعاصر بأن دوره هو ذلك الدور المكمل لدرور من سلفه من القادة الوطنيين والشهداء الابرار الذين طردوا زحوف المحتلين. وتقول المرويات الشعبية بأن تحرير فلسطين واجب يمليه الواجب، والالتزام بالمعتقدات الدينية الجهادية، فضلاً عن انه شرف يقوم به الابطال حماة العرض والارض والدين. وان معركة التحرير هذه تمتزج فيها قيم شتى: قيم الدين، وقيم البطولة، وقيم الشهامة. وتقول المرويات الشعبية ان يوم التحرير هذا آت لا محاله، وسيقاتل فيه المؤمن الكافر. سيكون المؤمن شرقي النهر، ويكون الكافر غربيه. وفي ذلك اليوم، يوم التحرير، سينطق الشجر والحجر. سيقول الحجر : يا مؤمن، هذا كافر فاقتله. اي ان الشجر والحجر ستساعد المجاهدين، فتنطق لتدلهم على مكانه وستحارب معهم الملائكة. وهناك في المرويا ت الشعبية ما ورد على لسان اناس قالوا بأن الملائكة قد حاربت مع الفدائيين في معركة الكرامة (21آذار 1968). وواضح ان هذه المرويات تستند الى اشارات في الحديث النبوي ونص القران، وان الله، ايضاً سينصر عباده، ويقف معهم، ويعينهم على اعدائهم، عندما يكونون في قمة النقاء والطهارة، والايمان العظيم. وفي النتيجة، فان المرويات الشعبية تشير الى ان المعركة من اجل تحرير الوطن قادمة، ولها وقتها وشروطها، ومواصفات الناس الذين يخوضونها. وفيها يكون النصر للمؤمنين. وان النصر آت لاريب فيه، وينتظر وجود الجيل الذي يؤمن بالله ويضحي من اجل تحرير ارضه المقدسة. ونجد هذه المرويات، وقد تجسدت ايضاً في الغناء الشعبي. هذا بيت من العتابا للشاعر محارب ذيب يقول فيه بأنه لابد من ان يعود وطننا الينا، يقول :
يا ويلي وين الذي بحرر وطنا
يا ذكره بالمُلُك شعشع وطنا
ولابد يرتجع هُوِّ وطنا
ولو نجوم السما بتسكب اطوابْ
لابد من ان نلاحظ بأن المرويات الشعبية تعطي انطباعات مختلفة عن امل الجماهير في التحرير، فهذا الامل يبدو مرتبطاً بارادة الله :
كريم الله على الاوطان بنعود
وهناك تعود وحدتنا غرب
وفي حالات اخرى نجد ان الفنان الشعبي لا يتعلق بأية اوهام، وهو يعرف حق المعرفة ان استعادة الارض المسلوبة لا تأتي بالانتظار والتواكلية، بل بالقوة، وان استعادة الارض تحتاج الى وحدة الناس وتماسكها. وبيدو الفنان الشعبي هنا واضحاً تمام الوضوح، فهو يرى ان الانسان يصنع حدث التحرير ولا ينتظره كمنحة لابد ان تأتي. فنان شعبي من الجليل يتحدث عن مصادرة الاراضي ويقول :
نادى المنادي في الجليل
ارض العروبة للعرب
شاغورنا مالك مثيل
وترابك احلى من الذهب
وبوحدة رجال الشاغور
امر المصادرة انشطب
دايان امرك مستحيل
امر المصاد
رة انشطب
قد لا يكون امر المصادرة قد شطب، ونحن نعرف ان الآلاف المؤلفة، من الدونمات قد صودرت من ارضنا، وتهودت، وفقدناها الى ان يأتي زمن التحرير، الا ان الفنان الشعبي هنا يتحدث عن حالة من المقاومة والتحدي، من خلالها يمكن ان تتوقف المصادرة، وهي الوصول الى حالة من الوحدة، والوقوف بوجه المحتل .
وفي مواقف اخرى تتحدث المرويات الشعبية عن القدر والتقادير التي اودت بحياة الابطال. ونجد الفنان الشعبي يصف حالة العجز، التام التي يقف الناس ازاءها امام الاستشهاد والموت، وبطش الاعداء بالمقاومين. هذه النصوص التي نستشهد بها تعود لثورة 1929، عندما انتهت "الفورة" وانتهت الصدامات في الخليل وصفد واماكن اخرى من الوطن، واستلم الجيش البريطاني زمام المبادرة، واخذ يزج برجال المقاومة في السجون، ويرسل آخرين الى المشانق. يقف الانسان الفلسطيني حزيناً مذهولاً امام الجنازات التي تخرج من سجن عكا ويقول :
من سجن عكا ونزلت جنازه
محمد جمجوم وفؤاد حجازي
جازي عليهم يارب جازي
المندوب السامي وربعه عموما
وفي موقع آخر من المناحة :
شوفوا المُقَّدر والتقادير
باحكام المولى تا يعدمونا
هنا يتصور الوجدان الشعبي ان ما حصل لمحمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي هو جزء من قرارات القدر، وهو شيء مثل اي حالة من حالات الموت يحدث بأمر الله. واضح ان الموقف نابع من حالة من الاستكانة وعدم القدرة على التصرف ازاء بطش الحكومة البريطانية المنتدبة على فلسطين. ولنقارن ذلك بموقف انطلاقة الثورة الفلسطينية، بعد 40 سنة من ثورة 1929 اي في حدود عام 1969، عندما كانت مدفعية الهاوتزر الاسرائيلية، من الجولان، تقصف المخيمات وتجمعات الفدائيين في منطقة اربد بشمال الاردن. وتسمع هذه الاغنية من اغاني المقاومة من اذاعة صوت فلسطين- صوت الثورة الفلسطينية" والمبنية على لحن شعبي فلسطيني قديم هو لحن "المحوربة" او اغاني المسيرة، ويظهر بكلمات جديدة، ترددها الجماهير وتتبناها لتصبح جزءاً اصيلاً من الموروث الشعبي :
نقاتل وحنا واقفين
تنحقق النصر المبين
ولا نعيش خاضعين
ولا نعيش لاجئين
وابوي قال لي يوم مامات
اتعلموا من الزيتون
وقاتلوا وانتوا واقفين
ولا تعيشوا خاضعين
ولا تعيشوا لاجئين
المنطق الشعبي في هذا النص، مغاير تماماً لما رأيناه في النص الغنائي الذي نعى ورثى شهداء ثورة 1929. شهداء الثورة المتجددة، بعد 40 سنة، وفي عام 1969 يوصفون بأنهم يقاتلون وهم واقفين، لا يخضعون ولا يركعون حتى يحققوا النصر المبين، وحتى ينفضوا عنهم اسم اللاجئ الخاضع. وتنجح ثورة شعبنا المتجددة، عبر شلال الدم، وقرقعة الرصاص في أن تحول الشعب من لاجئ الى فلسطيني، وتختفي نغمة التواكلية، وانتظار الفرج من المجهول، والعيش على الامل في التحرير دون كفاح، لتحل محلها الرؤية الواضحة :
لنقاتل
لنقاتل
لنقاتل يا شعبي
لنقاتل
ولنطلق كل النار
قطرات دمي
خيط في الراية يا وطني .
لنتصور كيف ان هذا النص، الذي دخل الحياة الشعبية في حدود السبعينيات، يختلف بصورة كبيرة عن نص آخر يفسر ما حدث عام 1948. الفنان الشعبي عبد العزيز كتكت، (6) وجد نفسه خارج بلدة الفالوجة، يهيم في المنفى، بعد هزيمة عام 1948. وهو في هذا النص يصف الهزيمة وحالة اللجوء والمجاعة باعتبار انها شيء "مكتوب علينا" و "مقدر من السَّتار".
كاتب علينا ننهان
كله مسطر ع الجبين
قدر علينا السَّتار
سلط علينا الكفار
بالقلة وقيزان النار
نركظ وحنا فزعانين
قدر علينا الخلاق
جينا ودشرنا الارزاق
نشرب علقم ما بنذاق
في الخان بنشحد طحين
وصرنا نبشر بعظنا
تاجانا السمنه والسردين
وظيعنا الاسم العتيق
وصار اسمنا ملاجيين
واللي بتعنقل كرته
مقنعص (7) والصوص المسكين 
ومش عارف يرجع عَ الدار 
خلي اولاده جعانين
وحامل كيسه راح ع الخان
قاله روح اطلع من هان
كن جره من عرق الذان
قالُّه كروتك مقطوعين (8)
يللي قطعت لكروت
ريتك ع جهنم تفوت
ما معنا ولا سحتوت (9)
كل العالم مفلسين
وبقراءة متأنية لهذا النص، ومقارنته مع اغنية المقاومة التي تنتمي للثورة المعاصرة تجد ان النص الذي ولد مع الهزيمة عام 1948 ، وغياب الثورة والبندقية، يصف حالة اللاجئ بصورة كاريكاتيرية، وقد التصق ببطاقة التموين، واعتمد عليها كبديل للوطن والارض ومصدر الرزق. هذا النص يصور مرحلة من التراجع والاستكانة والمذلة، ارتبطت بحالة من التواكلية، فعندما لا يجد اللاجئ وسيلة لاستعادة بطاقة المؤن "المقطوعة" لا يجد الا الدعاء للعلي القدير، على من قطع المؤونة، حتى يدخله الى جهنم. ويختم الشاعر صورة المأساة بقوله: كل العالم مفلسين. لقد رأى اللاجئ المسكين ان العالم من حوله يغرق في المجاعة لانه جائع. اما النص الاخر الذي ولد مع ولادة الثورة الجديدة المتجددة فانه لا يتعلق بالوهم، ولا يتبنى التواكلية، ولا يلجأ للدعاء- سلاح المفلس، بل يصور سبيل الخلاص الحل الثوري، وهو: "لنقاتل ولنطلق كل النار". وبذلك تكون المرويات الشعبية قد عبّرت بصدق عن المراحل التاريخية، وعن صورة الشخصية الوطنية للشعب الفلسطيني، في أوقات المحنة، وفي زمن المد الثوري.
وفي أشكال أخرى من التعبير الفلكلوري عن الشخصية الوطنية الفلسطينية يمكن رصد صورة الشعب طويل النَّفَس، الثابت على الموقف المقاوم، الرافض للهزيمة التي تأتي تلو الهزيمة، والذي يواصل كفاحه. وإذا دققنا في هذا الأمر وجدنا أن الأغاني الشعبية المقاومة تعبِّر عن صيغة فنية موازية لما جرى على أرض الواقع. لقد فشلت كل الثورات والانتفاضة في تحقيق التحرير على الوجه الذي أمَّل به الوجدان الشعبي، ومع ذلك ظلت الثورات تتجدد، وتأخذ أشكالاً وصيغاً جديدة بما يعبر عن النفس الطويل لهذا الشعب. وهناك العديد من النصوص الغنائية التي تصِّور هذا الثبات، والاستمرار، وتدعو له. ومن الممكن الاستشهاد ببعض منها، وأيضاً بحكاية شعبية تبين أن الوجدان الشعبي ظل يفرز مادة إبداعية لا تتوقف عن الدعوة لاستمرار الكفاح من مثل.