ألأسس الانسانية لأدب الأطفال - د. نعيم عرايدي

1. مقدمة :

 

يتميّز مصطلح " أدب الاطفال " بشكل عام بمرحلة الطفولة المحددة الموجة اليها هذا الادب ، دون اي اختلاف في روح الادب ذاته . وحين نتحدث عن " أدب الكبار " أو الموجه الى الكبار فإننا لا نستعمل هذا المصطلح ، بل نكتفي بلفظ " الأدب " دون إضافة  كلمة الكبار . ومن جهة اخرى فليس هناك اي تحديد لأجيال الكباروملاءمة الأدب لها . يكتب الأدب للكبار من جيل الثمانية عشرة وما فوق دون اي فصل بين مراحل هذا الجيل .

اما منذ استعمالنا لمصطلح أدب الاطفال  فإننا نعتبر أن هذا الادب المطروح يتميز بمرحلة الجيل وملاءمته لمراحل الطفولة المتعددة والمختلفة .

هكذا يتبين أن الموضوع المشترك بين ماهية المصطلحين الأدب أو روح الأدب والتي يصعب تمييزها عند طفل ومسّن . تماماً كما هي روح الانسان ؛ الروح واحدة وإن كانت في جسد طفل او في شخص رجل كبير .

ولعل هذا هو الدافع الذي نبحث في روح هذا الادب وفي ماهيتة من منطلق مشترك بينهما وليس من منطلق المغاير والمختلف . بإستثناء بعض الملامح المميزة لروح الطفل وفي تلك التي نجدها عند روح الكبار . وجدير بالذكر أن الطفل لا يستطيع قراءة أدب الكبار ؛ أن يفهمه وأن يتذوقه ويتماثل معه ، بينما يستطيع الكبير ، بل يجد كل المتعة في قراءة أدب الأطفال ، أن يتذوقه وينسجم معه .

السؤال الاساسي الذي يحدد نهج هذة المحاضرة يتمحور حول ماهية أدب الأطفال وروحه إلى جانب أدب الكبار هو :

    ما هي المقومات الأساسية التي تجذب كلا من الطفل والكبير إلى العمل الأدبي والتي تجعله يتمتع به متعة روحية جمالية ، يتذوقه ويتماثل معه ، مع اختلاف مضامينها واحداثها وحتى الشخصيات .

اوليست هذه هي العوامل نفسها التي تجعل من نص أدبي أدبا خالداً مقونناً ، قوميا  ً وعالمياً ؟!

لماذا يهتم اطفال العالم في كل زمان ومكان دون اي اتفاق او تنسيق بينهم على قراءة           " روبنزون كروزو " ، " سندريلا " " والقبعة الحمراء " ؟

للاجابة عن هذا الطرح علينا أن نتساءل ، ما هو المشترك لجميع هذه القصص الخالدة والتي لا ينزلها عن رّف القراءة زمان او مكان ؟

مهما تعاقبت العصور على بني البشر  ومهما اختلفت الاديان  والقوميات واللغات والحضارات فإن هنالك عوامل مشتركة تربط بين البشر اينما حلْوا ، تلك هي العوامل التي تضفي عليهم طابعا خاصا وتميزهم من سائر المخلوقات ، انها بلا شك العوامل الانسانية .

 

 

 

 

 

ولعل اسمى هذه العوامل هي العواطف البشرية ، التي تجمع بين طياتها الشعور بالاطمئنان والخوف والحاجة الى الحب والائتناس ، الحزن ، الامنيات وغيرها من الشعور والأحاسيس .

هناك من يعرّف هذه العواطف بأنها مصدر ضعف الإنسان ، وقد تعرّف معنى الإنسانية بأنها ضعفنا البشري . ولم تكن محض صدفة ان تتركز الديانات السماويه الثلاث في دعوتها الى تربيتها الأخلاقية على هذة العواطف وعلى ارشاد الإنسان نحو كيفية السيطرة عليها والتداوي منها .

ففي القرآن الكريم ( سورة النساء / الآيتان 27 – 28 ) يقول تعالى : بسم الله الرحمان الرحيم – " والله يريد ان يتوب عليكم ويريد اللذين يتّبعون الشهواتِ أن تميلوا ميلاً عظيما ( 27 ) يريد الله أن يخّفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفاً ( 28 ) .

إن الضعف البشري حسب المفاهيم المألوفة في مختلف المجتمعات يكمن في غرائز الإنسان ، في عواطفه وفي أحاسيسه . ولكن في الواقع هنا تكمن انسانيته ، وهو يطمح دائما بفضل او ربما بسبب التربية الاخلاقية أن يتغلب على هذه الغرائز والعواطف .فإن المجتمع الإنساني بصفته نظاماً عاما ً ابطل الكثير من الحقوق الفردية الطبيعية بغية تكوين منهج جماعي يقيد من حرية الفرد لصالح المجتمع .

ولعل قصة سيدنا داوود كما وردت في " الكتاب المقدس " تحقق عدة اهداف في هذا المجال :

" وكان في وقت المساء أن داوود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح إمرأة تستحّم ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً . فأرسل داوود وسأل عن المرأة فقال واحد أليست هذه بتشيبع بنت إليعام امرأة اوريا الحتي . فأرسل داوود رسلا ً وأخذها فَدَخلت إليه فأضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ... " .          (صموئيل الثاني ، 11 ، 2 – 6 ) .

أن الهدف الرئيسي من ورود هذه القصة في الكتاب المقدس عن رابع الانبياء وعن أكبر ملوك بني اسرائيل هو التأكيد على انسانية الانبياء وكبار الامم . فكأن في هذة القصة عظة وحكمة للبشر بتذكير أنهم من لحم ودم ، وأن لهم غرائز وعواطف كما لباقي الناس صغارهم وكبارهم ،فقرائهم وأغنيائهم ، ملوكهم وعبيدهم .

كما وأكدت الكتب السماوية على انسانية الانبياء أكثر ما نؤكده اليوم على إنسانية الإنسان العادي . فجاء في الكتاب المقدس تأكيداً على انسانية موسى عليه السلام في كتاب :         ( خروج  ، الاصحاح 33 ، 18 – 22 ) ما يلي :

" فقال أَرٍني مجدَك ، فقال أُجيز كل جودتي قدامَكَ ، وأنادي باسم الرب قدامك ، وأتراءفُ على من اتراءف وأَرْحَمُ من أَرحم . وقال لا تقدر أن ترى وجهي ،لأن الإنسان لا يراني ويعيش ... ".

إذن إن النبي موسى عليه السلام كليم الله وجها لوجه ، يريد رؤية وجه الخالق كأن يتميز عن غيره من البشر ، وهكذا تأتي إجابة الخالق ، بأن موسى بالرغم  من كونه سيد النبيين ، فإنه هو ايضا بشر وإنسان ، ولا يرى الإنسان الله ويبقى حيّاَ .

وايضا هكذا في القرآن الكريم ، تتكرر فكرة إنسانية النبي وجميع الأنبياء بغية عدم تأليهها بل جعلها نماذج بشرية  على ضعفه وقواه لكي يقتدي به الصغار والكبار . ففي سورة

 

 

 

الكهف جاءت الآية التي تنهي السوره : بسم الله الرحمان الرحيم – " قل انما انا بشر مثلُكم يوحى إلي ... " . ( 110 )

ويؤكد ما جاء في القرآن الكريم ايضا انسانية الانبياء إزاء الملائكة ، فإن الرسل والانبياء ما هم إلا بشر يُبعثون الى قومهم بوحي من الله .                                              

فورد في سورة الشعراء الآية ( 95 ) :    بسم الله الرحمان الرحيم – " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملاكاً رسولا " .

إذن كثيرة هي النماذج المألوفة التي تؤكد لنا أن الإنسان هو مخلوق مهما كبر وعلا فإن له نفساً وله روحاً تتميز بالعواطف والآحاسيس بالحزن والخوف وبأن له نهاية حتمية هي الموت . يخافها وتجعله حزيناً لسببها .

وهكذا أقام المجتمع بعد تكونه الجماعي نظما يحاول في إطارها الحّد من الإسراف في هذه الأحاسيس البشرية ، وحاول ان يجد لها حلولأ وقوانين معاقبة تمنع الفرد من إطلاق سراح هذه العواطف .

إن كبح هذه العواطف لا يعني التخلص منها والسيطرة عليها سيطرة كاملة ، فمن خلال كبحها تسبح هذه العواطف في عقليتنا ( الواعي واللاواعي ) ، وتجد لها في كثير من الاحيان منفساً في الخيال والحلم  وحتى اليقظة .

إن التعليمات والمواعظ وأصول التربية من شأنها أن تهذب وتلطف هذه الحالات البشرية ، لكنها لا تستطتيع القضاء عليها . لذالك أبدع الانسان بغية التعامل مع مخاوفه وأحاسيسه مجالا رائعا هو مجال الادب . فلعل الادب اجمل الأطر والصيغ لتلطيف مخاوفه واحاسيسه بل للتصريح بها بشكل حضاري انساني .

وقد نجد أن العوامل الإنسانية هي الأطر المشتركة لجميع بني البشر في جميع العصور والأجيال وبأن النصوص الأدبية المكتوبة منها والمنقولة شفوياً التي تتعامل مع هذه العوامل الإنسانية هي الخالدة ، هي المقوننة وهي الملائمة لكل الأجيال والعصور ، وبأن النصوص الادبية التي تتعامل مع مشاكل ظاهراتية ، لا تنبع من عمق النفس البشرية بأسمى عواطفها هي تلك النصوص الزمنية التي تتغربل وتختفي مع مرور الاحداث التي تتعامل معها .

وادب الاطفال كأدب الكبار إذا تعامل مع الاوضاع الإنسانية ، الإجتماعية والاخلاقية معاملة التربية المباشرة ، الاوامر والتعليم فإنها ستبدو غير ناجحة ، وغير جميلة وبطبيعة الحال ستعتبر ضرباً من الدروس التربوية وليست أدباً جميلاً مبدعاً .

إذن الادب الجيد ، الادب أ لجدي هو الادب الذي يتعامل مع العواطف البشرية ، مع المخاوف والأماني والأحاسيس – ومع هذا فأننا بذالك لا نتجاهل ضرورة كتابة الادب التربوي ، التعليمي الموجه للأطفال ، ضف الى ذالك الادب الترفيهي أو أدب التسلية .

بهذا نكون قد قمنا بعملية تصنيفية للأدب وقسمناه الى مجالات مختلفة هي كما يلي :

1.    المجال الابداعي .

2.    المجال التربوي الهادف .

3.    مجال التسلية والترفيه .

وتتمحور محاضرتنا هذه حول الادب الابداعي الذي يعني كما اسلفنا بالمخاوف الانسانية ، بالعواطف والحزن وغيرها من الاحاسيس البشرية .

 

 

 

2. جمالية الأدب : 

 

استذكر هنا قولاً مألوفاً لأحد كبار الشعراء عن جمالية الادب ما يلي :

" لا اعرف حتى اليوم كيف يستطيع الادب أن يجعل من حزننا شيئاً جميلاً "

وفي هذه المقولة الجميلة تكمن جمالية الادب . إنة صيغ جميلة لعواطف الانسان . ومن هذا المنطلق يجب أن نفحص ما هي الأسباب التي أدت الى اتفاقية غير مباشرة بين أطفال العالم ان يقرأوا سندريلا ، القبعة الحمراء ،أو روبنسزون كروزو ؟ .

الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو ( 1712 – 1778 ) صاحب نظرية التربية الطبيعية يوصي ابنه " إميل" أن يكون أول كتاب يقرأه قصة " روبنسزون كروزو " لأنه في رأيه ستزوده هذه القصة بأفضل تجربة تربوية . وجدير بالذكر انه جعل هذه القصة الكتاب الوحيد في مكتبة إميل لفترة طويلة .

وتبدأ هذه القصة على النحو التالي :

" كانت عائلتي عريقة وكان ابي سيداً حكيما ، علم دوماً بولعي بالبحر ، وحاول دائما شرح الاخطار التي يتعرض لها كل بحار هناك . وعلى رأس هذا الاساس تخليت عن فكرة ركوب البحر لبعض الوقت . ولكن ذات يوم ، عندما كنت في مدينة هال ، التقيت بصديق لي كان ذاهبا للابحار على سفينة والده . ودعاني للسفر معه ووصف لي الرحلات الرائعة التي قام بها . ايقظ هذا حبي العميق للبحر ، وبدون أن أسأل بركة ابي اوبركة الله ، وبدون التفكير بنتائج قراري المتهور ، صعدت على متن السفينة ... " .

يكمن العامل الإنساني في الأسطر الأخيرة من الفقرة . انه الصراع الإنساني الابدي بين رغبة الوالدين بطاعة الاولاد لإرادتهم ، وبين تمرد الابناء على إرادة والديهم .

والعامل الانساني الاخر الذي ينجم عن العامل الاول هو ليس فقط الطموح الى الاستقلالية لدى الاطفال بل تحقيقها . ثم يأتي عامل غريزي انساني اخر هو الانجذاب الى المجهول الذي يكمن في حب المغامرة والفضول . لو اردنا ان ندخل هذه العوامل في قصص المجال التربوي لفقدنا جاذبيتها لانه من المفروض في القصص التربوية الهادفة ان يطيع الطفل ابويه ، وان ينفذ التعيلمات الملقاة على عاتقه ، واذا ما رفض ذالك فانه يستحق العقاب والتهذيب .

ان وضع هذه الرغبات الغريزية في صيغة ادبية تجذب الطفل بصراحتها وعفويته . هذا ما يشعر به كل طفل ، ولكننا من ناحية اخرى لا نستطيع ابداءها للطفل بشكل مباشر لان ذالك من شأنه ان يتناقض مع التربية الحقيقية . فالقصة تجيء اذن لتلطيف هذه الغريزة ، للاعتراف بوجودها كظاهرة طبيعية ، لاتعيب ولا تخيف . ويجعل الادب هذه العملية بشكل جمالي جذاب .

 

 

 

 

نقول لو أن روبنزون كروزو أطاع ابويه ، فذهب الى التعليم وحصل على شهادة في الحقوق ونجح في حياته بشكل عادي ومألوف . هذا شيء جميل في الواقع لكنه لا يخلق قصة جميلة وجدية في مجال الابداع  . اذن تبدا القصة لتتعامل مع طفولتنا في الوضع الذي يبدأ به بطل القصة بالقول : " وبدون ان اسال بركة ابي او بركة الله ، وبدون التفكير بنتائج قراري المتهور ... " .

ولننظر ازاء ذالك في قصة يوسف القرآنيةالتي تبدأ كما يلي :

" نحن نقّص عليك احسن القصص بما أوحينا اليك هذا القرآن وان كنت من قبله من الغافلين ...

اذ قال يوسف لابيه يا ابت اني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . قال يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدون لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين " . ( سورة يوسف )

يعتبر القرآن الكريم قصة يوسف احسن القصص . وفي قصة يوسف الطفل احلام الاطفال وانانيتهم التي تنبع من غريزة الانسان منذ ولادته . هذه الانانية التي يعرضها القرآن الكريم في صيغة قصة جميلة هي احسن القصص . وخوف الوالد الذي يملي عليه تحذير الابن من مغبّة حسد اخوته ، لا يجد طاعة من قبل يوسف الطفل . وتطور القصة واضح ؛ ولو صيغت بشكل قصة للاطفال لكانت ايضا احسن القصص .

هكذا ايضا تبدأ قصة " القبعة الحمراء " :

" يحكى انه كان في وسط غابة كثيفة منزل صغير ابيض تسكنه فتاة صغيرة يعرفها الكل بإسم " القبعة الصغيرة الحمراء " . وذات صباح رافقتها امها حتى بوابة الحديقة وقبلتها وقالت لها :

-         احملي هذه السلة من الكعك الى جدتك المريضة ، ولكن اياك ان تزيغي عن الطريق او تتوقفي اثناء السير ، فانني اخشى ان يصيبك مكروه " .

تبدأ القصة بظهور مخاوف الام على ابنتها . وهذه المخاوف تنبع من عدم الثقة بالطفلة . هذه المخاوف تترك لدى الطفل شعوراً بالاحباط الذي يتطور الى تمرد على الاهل ، وغالبا يتحقق هذا التمرد مكونا صراعا بين الطفل والاهل .

ثم يأتي العامل الأخر وهو الانجذاب الى المجهول الناجم عن غريزة الفضول ومعرفة المجهول . هنا تتحقق استقلالية الطفل بعيدا عن رغبة الاهل التي تعترضها المخاطر المتعددة . وهذه الاخيرة لا تردع الطفل من الاستمرار بعملية التمرد الغريزية ، بل على العكس ، هي التي تدفعه لمجابهة الحياة بشكل منفرد عن الاهل ، وهي التي في نهاية المطاف تترك لديه اثر الاستقلالية وتحقيق الذات .

هذا ما يحدث بالفعل في قصة " القبعة الحمراء " :

" ثم انطلقت صوب الغابة بخطى حثيثة ، لكنها ما ان ابتعدت قليلاً حتى نسيت اوامر امها لها بالإحتراس والحذر " .

 

 

 

هذه الغريزة الاولى تثير لدى الطفل غرائز اخرى لنقرأ :

" وضعت الفتاة الصغيرة السلة من يدها وانحنت متعجبة : كم هي يانعة وجميلة ! ما ألذها .. واحدة اخرى ! همم ... الاخيرة ! واحدة اخرى وكفى ! ... همم ... !!

ولما استهواها التوت الاحمر ، المتلأليء فوق العشب الأخضر ، راحت تركض هنا وهناك متلذذة بمذاق الفاكهة اللذيذ ... " .

مرة اخرى نقول ان في تتطور هذا الموتيف في القصة الابداعية حركة مناقضة لما يجب ان تكون فيه في القصة التربوية ، وهذا اكبر دليل على ان القصة الابداعية جذابة اكثر من القصة التربوية .

ذالك هو التعامل مع الغرائز البشرية في صراعها الصريح والحقيقي مع الحياة ، ووضعها في صيغة قصيصه حرة هي التي تؤكد جماليتها .

 

 

3. أدب الاطفال المحلي والابداع :                   

 

في ادب الاطفال العربي المحلي تبرز هذه الطاقة من الابداع بعواملها الانسانية في قصص د. احمد هيبي ، وتقل ثم تكاد تكون معدومة لدى الاخرين ، وذالك لسبب التقاليد المألوفة في المجتمع العربي التقليدي في أن الكتابة بشكل عام يجب ان تكون اجتماعية هادفة تربوية وملتزمة ، وبشكل خاص في أدب الاطفال حيث لا يزال المجتمع العربي ملتزم بمسار الادب التربوي التعليمي والتقريري .

هذا الموضوع لا يزال طرح النقاش ولا نريد ان نخوض في اغواره في هذا المجال .

استمرارا لهذا الطرح الانساني الابداعي نود ان نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر شعر فاضل علي والذي نعتبره في اغلبيته شعراً جميلا للأطفال . لكن الاتجاه التربوي لا يزال يطغي على العديد من قصائده ففي قصيدة " غداً " من مجموعة     (  لي الدنيا ) نقتبس ما يلي :

" ولكنني ما              عدا ظهري

   ذكيّ أنا                 بعقلي ثري

   أقول لامي :          أنا عبقري

   غداً حين اكبر         لا تسخري

       سأغزو عطارد والمشتري "

في هذه القصيدة ينجلي التناقض في نفس الشاعر العربي الذي يتربّى على خلفية تقليدية ، ولكن هذا التناقض يجد تلطيفاً ظاهرياً له في القصيدة . فحين تستبدل الام بدل الاب ، فكأن الشاعر يظن بأنه تعدّى التقليدية والمحافظة باستبدال الأب في مجتمع أبوي . لكن الشاعر لا يحاول وضع الطفل في حيرته الانسانية وصراعه مع الأهل وطاعة الوالدين .

إن التعبير " ذكي أنا – عبقري أنا " غير وارد في عالم الاطفال . وإذا ورد فإنه استجابة لرغبة كل والدين في أن يكون طفلهما ذكياً وذا ثراء عقلي . الطفل لا يعرف معنى الثراء العقلي ، ولا يهمه الذكاء وغيابه في هذه الاوضاع . ثم يأتي  " غزو عطارد والمشتري " كقمة الاستجابة الى رغبة الوالدين .

إن ما يبرز هنا هو ذكاء الشاعر وليس ذكاء الطفل .فحين اعترض هذه الطاعة والاستجابة للوالدين بكلمة " لا تسخري " فإن هذا الاعتراض لم ياتِ إلاّ تلطيفا لهذه الطاعة العمياء .

إننا نجد هذه الصيغ الجمالية من عملية التلطيف في شعر فاضل علي فتتضح جليّا في قصيدة : " لديّ القرار " :

" يقولون :

ماذا ستعمل

حين تصير كبيراً ؟

 

 

 

أقول : طبيبا

ليرضى الكبار

وتعلو على الوجه

بسمتهم

كامتداد النهار

ولكنني في قرارة

نفسي

لديّ القرار

أنا لن ابوح

بهذا القرار ... "

يظهر الطفل في هذا الوضع مظهر الذكي المخادع . فمن ناحية يعرف انه يجب أن يرضي والديه عندما يقول " سأصبح طبيبا ليرضى الكبار " ، ولكن الشاعر في هذه القصيدة لم يكن جريئا حين انهاها بعلامة استفهام ، أو بنهاية مفتوحة . " أنا لن ابوح ... بهذا القرار " فعملية التلطيف هنا مخادعة ، ليس من قبل الطفل بل من قبل الشاعر ، فكأنه يترك لنفسه مجالاً للهروب . وفي هذه الحالة من الخضوع ينسى الشاعر أن  القصيدة للاطفال وليست للكبار . ومثل هذه القصائد كثيرة في شعر فاضل علي ، وخاصة تلك القصائد التي تمحو الفارق الحقيقي بين أدب الاطفال وبين الادب التربوي الذي يكتب عن الاطفال . سنترك هنا مجالا آخر للبحث التصنيفي بين الادب الذي يكتب للاطفال والادب الذي يكتب عن الاطفال .

في قصة " العيد الذي لم اشترك فيه " للدكتور أحمد هيبي ، عوامل انسانية تجعل من قصصه أدبا ابداعياً حقيقياً . مع اعتراضنا لبعض المفردات والتعابير المباشرة طبعاً . تبدأ القصة كما يلي :

" هل تتخيل ... ان يمرّ عليك عيدٌ يحتفل فيه جميع اخوتك وأنت لا تشترك فيه ؟ " تخيل أن اهلك يجلسون على المائدة ، وقد حضروا اللحم المشوي للأكل ، بل بقيت انت جالساً حزيناً في الزاوية " .

إن البداية قوية جدّا وجذابة في طرحها لوضع إنساني محزن . إنه بداية لصراع بين الطفل واهله ، ويتضح فيما بعد أن هذا الصراع ليس اجتماعياً بل انسانياً طبيعياً . ثم يضيف الكاتب بعداً آخر للصراع الذي ستأتي تفصيله فيما بعد بفقرة اعتراضية متناقضة :

" يحبني أهلي ، ويدلّلني كل من رآني . يقولون إن دمّي خفيف واني جميل . ويحب الجميع طريقتي في الاكل ، ويتأملونني حتى وانا نائم ...  فأنا أعرف كل ما يدور حولي ، ولا يخفى عليّ اي شيىء ، أما ما حدث مؤخراّ ، فكان صعباً علي ، وأنا للآن حزين ومجروح " .

 

 

 

 

إن في هذين الوضعين المتناقضين قمةً في الطرح الانساني . وهذا ما يجذب الطفل إلى المشاركة في صيغةٍ لصراعاته الانسانية الفردية مع الأهل والاخوة الذين يمثلون المجتمع .

في هذه الصيغة إعادة لبناء الكيان الانساني ، إنها تعطي الطفل يعداً ليستطيع من خلال رؤية ذاته في صراعها مع الحياة . ومن خلال هذه الرؤيا يستطيع أن يلقي بحزنه على منصة الادب ، من بعيد ، وذالك ما يمكِنه كما يقول أرسطو في كتابه " فن الشعر " من عملية التطهير "  كترزيس " .