القصة وتحليلها كوسيلة علاجية

 

الاستاذ عادل يوسف

 

   في العلاج بالفن نستعمل القصة في لقاءات عديدة  وتكون أحداثها والشخصيات التي تحتوي عليها محفزاً للأعمال الفنية التي يقوم بها المعالجون مثل الرسم، العمل بالطين، ألوان الأصابع، النحت، التلصيق وغيره.

   فالقصة وبالذات الأساطير الشعبية المختلفة تصور لنا عادة وباستعمالها للغة رمزية لا واعية أو غير مدركة صراعاً من الصراعات المختلفة التي يمر بها الانسان في بناء وتطور ذاته وشخصيته.

 

   وهي تصور لنا في البداية البيئة التي يعيش بها بطل القصة، ثم تأخذنا في رحلة من الأحداث والمغامرات يلتقي بها بطل القصة بشخصيات أخرى تؤثر عليه او يتغلب بها على مخاطر تواجهه، فتتغير شخصيته وتنضج أكثر مما يؤدي إلى النجاح الذي ينعكس في النهاية السعيدة للقصة.

 

   وفي القصة تجسد الشخصيات المختلفة التي يلتقي بها البطل صفات ومزايا لشخصيات مركزية في حياة الإنسان مثل الأب والأم، الذي لكل واحد منهما وظيفة مهمة ومختلفة في دفع التطور السليم لدى الطفل.

 

   ايضاً الأحداث التي تنقلها  لنا  القصة  تمثل  الأساليب والطرق والقدرات المختلفة التي يجب على الإنسان أن ينميها،والحاجات والدوافع الداخلية والبيئية التي يجب أن يتغلب عليها لكي يحصل ذلك التطور السليم في بناء شخصيته الذاتية.

 

   والانتقال من مرحلة تطور إلى أخرى أكثر نضجاً منها يشكل صراعاً داخلياً لدى الإنسان. فهو يشعر من ناحية بالطمأنينة والثقة تجاه المرحلة التي يتواجد بها واعتاد عليها ، ومن ناحية أخرى شعر بالخوف من المرحلة الآتية التي تجلب له مسؤولية أكثر لكنها تجعله ناضجاً  أكثر وتعطيه رضاء البيئة منه.

 

   بعد قراءة القصة في العلاج بالفن يطلب من المعالجين أن يقوموا بإنتاج عمل فني يصور الحدث الأكثر إثارة لهم في القصة.

 

   الموقف الذي يختاره المعالج، الألوان والمادة التي يستعملها وطريقة تعبيره التشكيلية للحدث يعكسان مكانته في الصراع الذي تحكي عنه القصة وكذلك حاجاته ودوافعه الداخلية التي تساعده او تضره في التغلب على هذا الصراع.

 

سأقرأ لكم الآن قصة القبعة الحمراء في ترجمتها من المصدر الأصلي في الألمانية التي كتبها الإخوان Grimm  في القرن السابع عشر 

 

القبعة الحمراء :

   كان يا مكان بنت جميلة وظريفة وكان يحبها كل من يراها. وأكثرهم أحبتها جدتها، حتى إنها احتارت ما هي كل الأغراض التي تستطيع إهداءها لها. نادتها مرة:

قبعة من الحرير حمراء اللون. ولأنها وضعت القبعة على رأسها أصبح الجميع ينادونها القبعة الحمراء.

 

   وفي أحد الأيام نادت لها أمها وقالت: "قبعة حمراء" خذي هذه السلة فيها كعك وقنينة نبيذ، أحضريها إلى جدتك لأنها مريضة وضعيفة فتكون سعيدة .

   لكن كوني حسنة السلوك ومهذبة وسيري مع الطريق ولا تتركيها  لئلا تتعثرين وتقعين فتنكسر قنينة النبيذ، فلا يبقى شيئاً لجدتك.

فقالت القبعة الحمراء لإمها سأقوم بكل شيء على أحسن حال، ووعدتها بذلك.

   لكن الجدة سكنت في الغابة نصف ساعة بعيداً عن القرية.

   ولما وصلت القبعة الحمراء إلى الغابة ، ظهر لها الذئب لكن القبعة الحمراء لم تعلم بأنه حيوان شرس وخطير فلم تخف منه.

   فسألها الذئب بعد أن حياها   "إلى أين أنت ذاهبة ، فأجابته : إلى جدتي ، فسألها: أين تسكن جدتك؟ فأجابته : ربع ساعة بعيداً عن هنا ، تحت شجرات الكستناء .

   وفكر الذئب في نفسه " هذه البنت الصغيرة  ستكون له وجبة لذيذةً واحتار كيف سيحصل عليها.

   فسار مع القبعة الحمراء قليلاً ثم قال لها: "قبعة حمراء".

   أنظري من حولك ما أجمل الأزهار في الغابة ، وأما أجمل صوت العصافير ، فأنت سترين بعجلة وكأنك ذاهبة إلى المدرسة والغابة هنا كلها جمال وهناء..

   فنظرت القبعة الحمراء بعينين واسعتين من حولها ولما رأت الأزهار الجميلة في كل مكان قالت لنفسها: لماذا لا أقطف باقة من الورد لجدتي ؟ فذلك سيسعدها ، فالوقت ما زال مبكراً ومعي كفاية من الزمن حتى أصل إلى هناك. وراحت نقطف الأزهار في الغابة، وكلما قطفت واحدة رأت أخرى أجمل منها فقطفتها.

 

   أما الذئب فذهب مباشرة إلى بيت الجدة وطرق البا ب،

   من هناك؟ سألت الجدة؟

   أنا القبعة الحمراء جلبت لك الكعك والنبيذ - أجابها الذئب: أدخلي يا ابنتي  - قالت الجدة  - فأنا ضعيفة ولا استطيع الوقوف.

   فدخل الذئب وذهب مباشرة إلى السرير وابتلع الجدة في الحال. لبس ملابسها ووضع نظارتها على عينيه ونام على السرير.

     لكن القبعة الحمراء كانت قد سارت كفاية في الطابة وقطفت كثيراً من الأزهار فتذكرت جدتها وعادت إلى الطريق لتصل إليها.

وما أن وصلت وجدت الباب مفتوحاً فشعرت بعدم إرتياح وطمأنينية وقالت:

ماذا بيّ اليوم؟ مناده أكون سعيدة وفرصة لدى جدتي.

فدخلت واقتربت من السرير ونظرت إلى جدتها فرأتها غريبة الملامح.

فسألتها : جدتي لماذا أذناك كبيرتان بهذا القدر؟

           لماذا عيناك كبيرتان بهذا القدر؟

           لماذا يداك كبيرتان بهذا القدر؟

           ولماذا فمك كبير بهذا القدر؟

لكي أستطيع أن أبتلعك جيداً - أجاب الذئب، وقفز بسرعة وابتلع القبعة الحمراء دفعة واحدةً.

بعد هاتين الوجبتين اللذيذتين استلقى الذئب في السرير ونام وراح يطلق شخيراً عالياً.

   مر صياد بجانب البيت وسمع شخير الذئب فقال: كيف تستطيع العجوز أن نطلق شخيراً عالياً بهذا القدر، سأذهب لأرى كيف حالها.

   فدخل البيت ووصل إلى السرير فرأى الذئب نائماً فيه.

  فأراد  أن  يطلق النار عليه، لكنه فكر "لعل الذئب ابتلع الجرة واستطيع أن أنقذها فأخذ عصاً كبير وشق له بطنه. 

   فرأى القبعة الحمراء تبرق بجمالها ثم رأى الجدة فأخرجهما من بطن الذئب وأنقذهما.

   فخرجت القبعة الحمراء وقالت  " كم كنت مرتعبة ببطن الذئب مظلم جداً. ثم أحضرت حجارة ووضعتها في بطن الذئب، فلما استيقظ وأراد أن يسير سقط من ثقل وزنها ومات.

  

   وهكذا كانوا جميعاً سعداء  فأخذ الصياد جلد الذئب وحصلت الجدة على النبيذ والكعك وأما القبعة الحمراء قالت: سأسمع بأقوال أمي ولن أعصى أوامرها من الآن وإلى الأبد.

 

   تبدأ القصة بوصف فتاة صغيرة جميلة وظريفة ومحبوبة من كل من يراها . وتصف لنا البيئة التي تعيش بها. ونرى ذكراً للأم والجدة كشخصيتين وحيدتين في حياتها.

   هذا الوصف الأولي يعطينا تصوراً عن حياة هذه الطفلة وعن شخصيتها:

   فهي تعيش مع أم وجدة تهتمان بها وترعيانها جداً. وبالذات الأم التي تعطيها  الكثير من المحبة والاهتمام وتصونها من الدنيا حتى لا تتعثر أو تصاب بأذى. وهذه الأم تحمي ابنتها الوحيدة لدرجة أنها أبعدتها عن الحياة الواسعة الكبيرة ، ولم تستطع هذه البنت أن تخوض تجارب وصراعات واحتكاكات في الحياة وتنفصل عن أمها وتكوّن وتبني شخصية أو ذاتاً مستقلة ومنفردة.

 

   نحن نرى في القصة عدم ذكر لوجود الأب أو بشكل آخر لعناصر رجولية ذكرية في حياتها.

   في علم النفس يعرف بأن للأب في عملية انفصال الطفل عن أمه واستقلاليته وبناء شخصيته الذاتية دوراً  مهماً. فالأب يساعد الطفل ويعطيه القوة والطاقة والتشجيع لكي ينفصل عن نطاق الأم الضيق ويبدأ في اختيار الدنيا وجوانبها بشكل أوسع.

 

   لذلك فالصراع الأساسي الذي تتكلم عنه القصة هو انفصال القبعة الحمراء عن أمها، خروجها إلى الحياة والدنيا الواسعة، مواجهتها وتحديها وبناء شخصيتها الذاتية. ولكنها بحاجة إلى قدرات رجولية تعطيها القوة والشجاعة والطاقة لتقوم بذلك.

 

   الجدة وهي رمز الأمومة ، رأت بأن البنت أصبحت في سن بالغة لكي تبتعد عن أمها. لذلك فهي تهديها قبعة ولكن لونها أحمر.

  هل قصدت الجدة أن تكون القبعة بهذا اللون؟

  فاللون الأحمر يلفت النظر ويجعل لمن يلبسه مهماً.

وهي أرادت أن ترينا بأن القبعة الحمراء ستصبح شخصية مهمة.

 

   لكن الأحمر يرمز ايضاً للخطر. وتقول لنا القصة بأن الجدة شعرت بالخطر الذي يتعرض لهذه الفتاة الصغيرة إذا بقيت في أحضان أمها ولم تجد سبيلها الذاتي في الحياة.

  ولكي تستطيع هذه الفتاة  التحرر  القيم والمعايير الأخلاقية  فهي بحاجة للطاقة والقوة والشجاعة وحتى العنف وجميع هذه الصفات تكمن أيضاً في اللون الأحمر.

   إذاً يمكن القول بأن الجدة تقوم هنا بالخطوة الاولى لكي تساعد الفتاة في التغلب على ميول الأم في الحفاظ عليها، كذلك على ميولها الداخلية للبقاء في هذا المجال الأمين والعطوف الذي اعتادت عليه.

   وهكذا يحصل في القصة وتخرج القبعة الحمراء إلى جدتها وفي الطريق تصادف الذئب، وهو الرمز الذكري أو الرجولي الأول في القصة. وهنا القبعة الحمراء ، كما تقول القصة، لم تدرك من هو هذا الحيوان مما يؤكد على سذاجتها وبداءتها وقلة معرفتها وتجربتها في الحياة كما ذكرت أعلاه.

   لماذا اختارت القصة أن تلتقي القبعة الحمراء بالذئب وليس حيواناً آخر؟؟

   في الحضارة المصرية القديمة رمز الذئب للحيوان الذي يبتلع كل شيء، ولهذا فهو رمز للموت والفناء.

    في علم النفس يستعمل مجازاً مصطلح الموت والولادة الجديدة للإشارة إلى الانتقال من مرحلة تطور إلى أخرى. ونعني بذلك التخلص من مزايا صفات وسلوك مرحلة وولادة مزايا وسلوك جدد أكثر نمواً وتطوراً ونضوجاً.

   لذلك فالذئب يعني هنا رمز الا بتلاع القبعة الحمراء الساذجة البريئة الصغيرة حتى تولد قبعة حمراء ذات شخصية بالغة ومستقلة.

   من الناحية الأخرى يرمز الذئب للصفات الرجولية التي كان يجب أن يجسدها الأب. فهو يلفت نظر القبعة الحمراء إلى الدنيا الواسعة الجميلة. يقول لها أن تنظر  إلى الأزهار الجميلة وصوت العصافير . وهكذا يعطيها المصداقية والشجاعة والدعم لتختبر الحياة بنفسها وتفتح عينيها جيداً.

   أما الصفة الثالثة للذئب فهي الجشع والطمع. فهو يبتلع من جشعه كل شيء يجده. ولكن هذا ما تشعر به القبعة الحمراء. فهي تشعر بالتعطيش والظمأ والاشتياق للحياة. لذلك نراها ستستجيب لهذا الذئب وتصف لنا القصة جشعها وطمعها فكانت تقطف الزهرة ثم الأخرى وكانت كل مرة تجد أخرى أجمل منها وتقطفها. 

   لكن هذه اللحظة هي اللحظة التي تنتقل بها الفتاة من شخصية غير مبالية وخاملة إلى شخصية فعالة تقوم بالأشياء لوحدها وأكثر من ذلك فهي تهتم الآن بأن تجلب لجدتها شيئاً من تعبها واجتهادها الخاص وليس من أمها.

   إذا نظرنا إلى القبعة الحمراء بأنها فتاة في جيل المراهقة فنرى هنا تحولاً وتطوراً مهماً. فعلى هذه الفتاة المعانة من أمها أن تقتل بداخلها الصفات الطفولية الاتكالية وتأخذ القوة والشجاعة من الذئب لتنتحر من تلك الشخصية وتولد مجدداً كامرأة شابة يافعة.

ونرى هنا بأن القبعة الحمراء تنتهز أول فرصة من الحرية التي تحصل عليها لكي تظهر لنا صفاتها الشجاعة والجريئة وتحقق دوافعها الذاتية لنمو الاستقلالية والانفرادية.

وهذا هو التطور الذي نراه بشق دربه لدى القبعة الحمراء حتى نهاية القصة.

فهي تذهب إلى جدتها وهناك ولأول مرة نشعر بعدم الراحة والسعادة. وهذا يدل على أن القبعة الحمراء شعرت بالمخاطرة التي ستواجهها. لكنها رغم ذلك تظهر شجاعتها وتدخل إلى السرير وهناك ترى جدتها غريبة الملامح.

  

   لابد أن القبعة الحمراء أدركت بعد أن رأت الذئب في الغابة بأنه هو الذي يستلقي في السرير وليست جدتها وهي شعرت كذلك بالخطر منذ أن دخلت من الباب.

 

   لكن لماذا تبقى هناك وتجلس بجانبه؟!

   هل يحصل ذلك لكي يتحقق ما ذكرته أعلاه؟!

فالذئب هنا يبتلع أخيراً القبعة الحمراء لكي يتم التطور  إلى آخره. وهي تواجه هنا خوفها ورعبها من أحشاء الذئب المظلمة، وكذلك خوفها من ترك شخصيتها الطفولية التي اعتادت عليها.

   ولكي تؤكد لنا القصة بأن هذا التطور إيجابي تصف لنا القبعة الحمراء بأنها تبرق وتلمع عندما أخرجها الصياد من أحشاء الذئب، أي أكثر جمالاً مما كانت عليه.

 القبعة الحمراء التي تخرج الآن من بطن الذئب كسبت منه بسبب بقائها في أحشائه قوته وعزمه وشجاعته وطاقته حتى يستطيع التحرر من القيم والمعايير الأخلاقية التي طبعتها بها أمها.

 

   لكن رغم ذلك وللأسف فإن نهاية القصة ليست سعيدة كما يجب. مقارنة بالقصص الأخرى التي كتبها الأخوان Grimm كان على القبعة الحمراء والصياد أن يتزوجا ويعيشا بسعادة وثراء.

   إلا أن القبعة الحمراء تفضل العودة إلى أمها لتكون بجانبها وتهرب من الحياة والدنيا التي جعلتها تنضج وتكبر لكنها أشعرتها بالكثير من الخوف.

   لكن هل يعبر هذا عن الخوف اللاواعي الذي شعر به الأخوان Grimm  من حركة تحرر المرأة في ذلك الوقت، ولذلك أرادا القول بأن المرأة التي تريد التحرر من المعايير التقليدية ستواجه الذئب الذي سيبتلعها ولذلك يكون أفضل وآمن لها البقاء والحفاظ على تلك المعايير.

   رغم ذلك وبصورة لاواعية يتم في القصة التطور والبلوغ الذي يجب على القبعة الحمراء أن تصل إليهما رغم عدم وجود النهاية السعيدة المتبعة في باقي الاساطير.