البذور العجيبة- (خيال علمي): سامي محمود طه من مجموعته سالم في بلاد العباقرة

 

كان بائع الصحف اليومية، يتجول، وهو ينادي بأعلى صوته: "اقرؤوا صحيفة اليوم.. صحيفة اليوم.. أخبار العلم.. جديد العلم.. البذور العجيبة -جديد العالم نزار" ثمة أناس اشتروا الصحيفة وآخرون يتجمعون بغية الإطلاع.. بينما مضى بائع الصحف نحو شارع آخر يطلق صيحاته المعلنة..‏

"حقاً، إنه خبر يستحق الانتباه" قال بعضهم.. وسرى حديث البذور العجيبة بين الناس بسرعة فائقة.. فالعالم نزار ابن مدينتنا.. وما زاد اهتمام الناس إعلانه أنه سيجري تجارب على هذا الاكتشاف على مرأى من الناس في الحدائق العامة..‏

"ما الحكاية البذور العجيبة؟" سألني والدي.‏

فقلت: الأقاويل تدّعي أنك بعد أن تغرسها تنمو بسرعة خيالية فلا يمر يومٌ واحدٌ على زراعتها حتى تنمو وتزهو وتثمر..‏

قال أبي: يا إلهي.. أيعقل هذا‍!! وهل يتعلق الأمر بنبات محدد؟‏

قلت: الأقاويل أيضاً تؤكد أن بذور أنوع أي نبات إذا عولجت كما يريد العالم نزار يمكن أن تحمل هذه الصفات.. على كل حال غداً موعد التجربة سيعرض للناس اكتشافه مجرباً على بذرة بندورة.. سيحضر أناس كثير غداً لا شك.. فالجميع متلهفون للرؤية بعد أن سمعوا..‏

قاطع أبي حديثي: اطمئن.. سنكون من الحاضرين..‏

صباح اليوم التالي، تجمع مئات من البشر في الحديقة العامة، المكان الذي اختاره العالم نزار لتجريب بذوره العجيبة وكان من بين الحضور علماء مهتمون.. توقفت سيارة تكسي قرب مدخل الحديقة.. ترجل منها العالم نزار يحمل حقيبة صغيرة بيده ويتقدم واثقاً.. اخترق جموع الحاضرين حتى توسطهم.. ثم طلب أن يفسح المجال له لبدء العمل.. وحين أصبحتْ أمامه فسحة كافية. فتح حقيبته وأخرج علبة زجاجية صغيرة.. فتحها واستخرج من داخلها بذرة.. غرسها بيده في تربة الحديقة وطلب إلى الناس أن يراقبوا ما سيحدث في زمن قياسي. لم يطل انتظار الناس فبعد قليل نمت فوق التراب نبتة البندورة وراحت تنمو أكثر فأكثر والناس بين مؤمن بالعالم مصدقٍ لما يرى، وبين مشككٍ فيما يرى.. وبين مدّعٍ أن هذا ما هو إلا سحر وما هي إلا ساعتين حتى تبدت على النبتة براعم سرعان ما تفتحت وأصبحت أزهاراً ولم تلبث أن تحولت ثمار بندورة، بدأت صغيرة ثم أخذت تكبر حتى اتخذت حجماً طبيعياً. وبعد مضي ثلاث ساعات حصل العالم على ثلاث حبات بندورة ناضجة، قطفها، واقتلع.. نبتة البندورة من جذورها بصعوبة فائقة حيث وضعها في كيس أحضره -ربما- لهذا الغرض صفق الناس بإعجاب شديد.. وأخذت تعليقاتهم تشيد بالعلم والعلماء.. وخصوصاً نزار الذي يجب أن يلقى كل تشجيع لمتابعة بحوثه... ثلاثة رجال فقط، من بين جموع الحاضرين ما صفقوا.. وحين بدأ الناس ينصرفون بقوا هم في أمكنتهم.. إنهم العلماء: بسام -وسعيد- وإياد.. وحتى بعد أن غادر العالم نزار مزهواً وعلى وجهه ابتسامة النصر تبادل الرجال الثلاثة نظرات حذرة وتساءل بسام: ما الذي حدث؟ ما الذي رأيناه؟‏

رد سعيد: علينا أن نتريث في أي حكم.. وفي النهاية كل جهد علمي مشكور..‏

أضاف إياد: نحن أصحاب خبرة في مجال علم الأحياء.. علينا التريث -كما قلت- في أي حكم لكن في أعناقنا مسؤولية مقارنة فائدة الإختراع الجديد وضرره. فإن كان الضرر أكبر من النفع يجب أن نجتهد في تطوير هذا المكتشف وتخفيف ضرره، أو إلغائه قطعاً.. أما إن كان نفعه أكبر فنشد على يد العالم نزار ونبارك جهوده.. المهم الآن بين أيدينا ابتداع، وعلينا تقصي نتائجه..‏

قال بسام: لنبدأ بالمنافع الاقتصادية. لا شك أن هذا الاكتشاف سيوفر للناس حاجاتهم من النبات في زمن قياسي.. فيمكن للمرء أن يحوي في منزله بذوراً من أي نبات يشاء. وإذا أراد ثماراً طازجة يزرع على الفور هذه البذور فيجني ما يريد.. إنها إحدى الإيجابيات.‏

رد سعيد: وما يدريك أنها إيجابية؟ ألم تتساءل عن المواد التي يعالج بها بذوره حتى تمتلك هذه القدرة العجيبة على النمو؟‏

وبينما كان بسام وسعيد يتجادلان.. صرخ العالم إياد انتبها.. انتبها.. أعشاب الحديقة والنبات المجاور لمكان زرع البذور أخذت تصفر وتذبل.. بل إنها تكاد تموت، لا شك إن هذا من أثر البذور العجيبة.. انتبه العالمان بسام وسعيد وإياد لملاحظة صديقهما، وبعد قليل انطلق بسام نحو المختبر الذي يجري فيه بسام وسعيد وإياد تجاربهم.. وعاد بأجهزة كشف، ومواد اتفق الثلاثة على إحضارها. اجتهد العلماء في البحث.. اقتلعوا بعض الأعشاب التالفة، وتفحصوا جذورها، ثم اختبروا تربة من مكان زراعة البذرة العجيبة.. وبعد وقت قصير قال إياد: يا إلهي.. إنها كارثة.. هل مضى نزار ليجرب بذوره في مكان آخر؟ يجب إيقاف نشاطه حالاً..‏

قال بسام: أجل.. بذوره مزوده بمواد كيماوية تمنحها قدرة على سحب خيرات الأرض التي تزرع فيها.. إنها تمتص النسغ من جذور النباتات الأخرى في مساحة خمسة أمتار مربعة انظر التلف الذي أصاب النباتات المحيطة.. علينا اللحاق به ومنعه من إجراء المزيد من التجارب.. فمن المؤكد أن أي أرض تزرع فيها بذرة كهذه ستبقى فقيرة زمناً طويلاً ولن تستطيع تزويد جذور أي نباتات أخرى بالمواد العضوية اللازمة لنموها.. أسرع العلماء الثلاثة نحو السيارة التي أوقفوها خارج الحديقة.. وانطلقوا يبحثون عن العالم نزار.. وفي السيارة تساءل إياد الذي يتولى القيادة: لا شك أنه استحوذ على اهتمام الناس.. كيف نستطيع إيقاف اكتشافه دون أن نثير سخط الناس؟‏

رد سعيد: ببساطة، نطلب إلى نزار أن يغرس بذرة في أرض لا نبات فيها وعندها لن يتمكن من إبهار الناس..‏

تابع بسام: أو ندعوه، ومن يحضر تجربته للبقاء قليلاً بعد إتمام التجربة وملاحظة ما شاهدناه. لا شك أن هذا سيحول إعجاب الناس بهذا الاكتشاف الخطير. لم يكن عسيراً أمر التعرف على مكان نزار.. فجمهرة الناس توحي بوجوده في حديقة عامة أخرى.. أحس نزار بالضيق، وهو يرى تقدم العلماء الثلاثة وقد ارتسمت على وجههم علائم غضب.. إنه يعلم أن إعجابهم لا يولد فوراً.. لكنه ما توقع أن يكتشفوا أمره بهذه السرعة كان نزار يمسك بيده بذرة، ويكاد يغرسها حين جاء صوت العالم بسام: نزار.. توقف!‏

انتبه الجميع للنداء.. قال نزار: لِمَ أتوقف؟ الناس ينتظرون تجربة بذوري العجيبة.‏

أجابه العالم سعيد: يا نزار، كلنا نحب العلم.. نبارك أي جهد علمي نافع. إنما اكتشافك هذا سيؤدي إن انتشر إلى كارثة.. وأنت تعلم ذلك.‏

رد نزار غاضباً: إنه الحسد.. أجل. الحسد بدل أن تحاولوا منعي من إجراء تجاربي وإثبات نجاحي، امضوا إلى مختبركم.. علكم تتمكنون من فعل شيء.. هيا هيا.. لا تضيعوا الوقت.‏

تقدم العالم إياد وقال: نزار.. أمام الجميع أتحداك أن تزرع بذورك العجيبة في أرض لا نبات فيها.. وإن غرستها في مكان مخضر، فإنني سأدعو الناس للبقاء بعد التجربة بعض الوقت ليروا بأعينهم ما الذي سيحدث .. اضطرب نزار لهذا التحدي.. وتظاهر بأنه سيغادر مغضباً.. إلا أن أحد الحاضرين أصر على منعه من المغادرة قبل إجراء التجربة.. فانصاع نزار لهذا الإصرار، وغرس بذرة باذنجان.. وراح الحاضرون يرقبون ما يجري.. أبدوا إعجابهم الشديد بداية وبسرعة نمو مراحل النبتة.. إلا أنهم بقوا ساعة بعد انتهاء الاختبار، حيث جاء دور الثلاثة في إظهار الأثر السلبي لهذا الاختراع.. فتحول إعجاب الناس إلى غضب وسخط على العالم نزار.. أما الرجل الذي أصر على إجراء التجربة، فقد تقدم واثقاً من نزار وأخرج بطاقة تثبت أنه ضابط شرطة.. وطلب من نزار والعلماء الثلاثة بسام وسعيد وإياد مرافقته إلى مركز القسم. ركب العلماء الأربعة سيارة الشرطة.. وحين وصلوا مكتب الضابط المرافق لهم، سمح لهم بالتحاور علمياً في الاختراع الجديد.. وكان يسجل حوارهم على شريط كاسيت.. بدا نزار ضعيفاً، وخجلاً أمام خبرة وحرص رفاقه الثلاثة.. وأقر أن ضرر اختراعه أكبر بكثير من فائدته.. وإنه إن انتشر فسيؤدي إلى إفقار التربة في المكان التي تزرع فيه عندما طلب ضابط الشرطة أن يوقع نزار تعهداً بعدم إجراء أية تجارب على اكتشافه الجديد إلا بعد تفادي ضرره وتسليم كامل الكمية من البذور المعالجة، والمواد المستخدمة في منحها هذه إلى قسم الشرطة ليتم إتلافها. فرضخ. خرج العلماء الأربعة من قسم الشرطة.. كان نزار يسير مطأطئ الرأس فحدثه بسام: لا بأس عليك يا نزار.. كلنا نحاول البحث والاكتشاف.. بذورك قد تصبح يوماً ما ذات جدوى وفائدة قصوى.. المهم في أي كشف علمي ما يقدمه للناس من نفع.. فعلمنا وبحثنا في النهاية لخدمة الناس.. تابع بحثك.. وإن احتجت نصحنا ستجدنا إلى جانبك حتماً.. واعلم أننا أكثر من يسر بأي إنجاز جيد.. ولسنا أبداً كما تصورت حاسدين.‏

قال سعيد: إننا ندعوك لزيارة مختبرنا.. ومشاركتنا أية تجارب مخبرية..‏

وأضاف إياد: لنكن أصدقاء.. لنتعاون.. فأربعة عقول مجربة مجتهدة خير من جهد فردي.‏

نظر إليهم نزار وكأنما يعتذر عما أقدم عليه، وقال: هل تقبلونني صديقاً؟ أجاب الثلاثة بصوت واحد: بل نحن ندعوك لصداقتنا ستكون صداقة نافعة بإذن الله. ابتسم الأربعة وساروا بضع خطوات، بينما كان حشد من الناس يجتمعون عند باب قسم الشرطة وينادون: البذور العجيبة.. نريد البذور العجيبة..‏

فخاطبهم نزار: أعدكم أن أعود إليكم بها.. ولكن بعد تعديلات لا بد منها.. وسيساعدني رفاقي بسام وسعيد وإياد في ذلك.‏

ردد الناس: إننا ننتظر.. إننا معجبون بكم.. حياكم الله أيها العلماء.. أنتم زينة هذه الأرض ونعمتها.. وبينما كان الناس يتابعون مدحهم وتشجيعهم .. كان العلماء الأربعة يسيرون مبتعدين.. متجهين إلى مختبر سيضمهم ويستقبل تجاربهم المشتركة منذ الآن.‏