شجرة سنديان وشجرة ميس

 

كان في واد خصيب قرية هادئة جميلة، ولكن سكان القرية كانوا قوما أشرارا، فلا يمر بالقرية غريب حتى يلاقي الأمرين منهم، فإذا كان جائعا تعبا والتفت إلى أبواب الدور كأنه يلتمس الضيافة أغلقت الأبواب في وجهه وسمع اطيط مساميرها وقرقعة ارتجتها، وكثيرا ما كان الأولاد يرمونه بالحجارة، والكبار يستهزئون به ويسخرون منه، وما زال شر سكان القرية يعظم ويزداد حتى بلغ الآلهة في جبل اولمبوس.

وفي ذات ليلة من ليالي الشتاء، سوداء الجلباب، بيضاء الصقيع، قارسة الجليد، مر في القرية رجلان غريبان، وأخذا يقرعان أبواب القرية بابا بابا يطلبان الاحتماء من شر الصقيع، فلم يفتح في وجهيهما باب.

ولما سدت الأبواب كلها في وجهيهما، رأيا بيتا منفردا واقعا في طرف القرية، فقصدا إليه، ولم يبق في القرية كلها غيره، ولما وصلا إليه وجداه كوخا صغيرا يتألف من غرفتين، وكان مسقوفا بالأخشاب والأعشاب، فطرقا بابه وطلبا الدخول.

وكان صاحبا الكوخ زوجين شيخين، وكانا على غير عادة أهل القرية، رجلين صالحين لا يفكران بالسخرية من الغرباء أو رميهم بالحجارة، أو إطلاق الكلاب عليهم أو إغلاق الأبواب في وجوههم، وما سمعا الطرق على باب كوخهما حتى فتحاه ورحبا بالغريبين القادمين.

وكان باب الكوخ منخفضا اضطر معه احد الغريبين الضيافة خفض رأسه عندما دخل، وكان قاع البيت يدل على فقر صاحبيه، ولكن فيليمون وبوسيس استقبلا الغريبين بالسماحة والبذل، وعمدت بوسيس الضيافة النار فأشعلتها ووضعت فوقها قدرا، وجاءت ببعض الخضار من بستانها ووضعته في القدر يغلي، ووضعت فوقه قطعة من قديد اللحم.

ثم جاءت بوسيس بمائدة قديمة، ودعمت إحدى قوائمها، ووضعت عليها شيئا من التين قطفته من بستانها، ورغيفا اسمر وشيئا من الخمر التي صنعتها بيديها، ولما نضج اللحم والخضار أضافت إليهما شيئا ن البيض، ودعت الغريبين الضيافة العشاء، ولولا الغريبين لم يزد طعام الرجل وزوجته على الخبز الأسمر والخمر وشيء من قديد اللحم، ولكن للضيافة واجباتها.

وما شرع الأربعة يأكلون، حتى رأى الشيخان أمرا عجيبا، فان كاس الخمر ما كان ينقص منها شيء عندما كانت تنتقل من يد الضيافة يد مهما شرب منها الشاربون، وما رأى فيليمون وبوسيس ذلك حتى علاهما الخوف والاضطراب، فقد سمعا بأشياء كهذه تحدث عندما يضيف البشر الآلهة، ولكنهما لم يريا شيئا من ذلك قبل، وما حدقا بوجهي ضيفيهما حتى شعرا أن للطويل منهما مجها مهيبا جليلا، أما الآخر فقد بدا في عينيه شيء من القسوة والأذى، أول فكر طرأ عليهما معا انهما قد قصرا بضيافتهما، فوثبت بوسيس عن كرسيها وركضت وراء إوزة لهما لم يبق للضيافة غيرها، أسرع فيليمون لمساعدتها، ولكن الإوزة فاتتها، ونشرت جناحيها، أخذت تطير من مكان الضيافة مكان، حتى دخلت الضيافة الكوخ وعاذت بالضيفين فأمناها.

وأخيرا اخبر الضيفان الرجل وزوجته انهما جوبيتر وهرميس، وانهما سمعا بشكوى الغرباء من سكان القرية فأتيا ليحققا في الآمر، فوجدا أن الآمر صحيح، وان من الواجب معاقبة القرية، وأما فيليمون وبوسيس فانهما صالحان ولذلك كتبت لهما النجاة، وطلبا منهما أن يرافقهما الضيافة سفح الجبل، وما لبث القمر حتى اطل من وراء الجبل فبدت القرية جلية واضحة، والتفت الشيخان الضيافة القرية إلى بالدور تغب عن النظر، وتغوص في الأرض كأنها حجارة تلقى في الماء، وإذا بالقرية تنقلب بحيرة ساكنة هادئة، فإذا لم يكن هناك قرية أو بشر.

أما كوخ فيليمون وبوسيس فقد ظل في مكانه راسيا كالجبل، ولكن سقفه الحشيش أبتدأ يصفر، وإذا به يصبح ذهبا، وإذا بالجدران تتحول عاجا ابيض، وإذا بالكوخ يصبح هيكلا من العاج الأبيض مسقوفا بالذهب الوهاج.

أمر جوبيتر وهرميس الشيخين أن يطلبا ما يشاءان وكل طلبة لهما تعطى، ولم يفكر الشيخان بالمجد والغنى والعظمة بل طلبا أن يموتا في وقت واحد حتى لا يحزن أحدهما على الآخر.

واصبح فيليمون وزوجته كاهنا للهيكل وكاهنة يعبدان الآلهة، فيزورهما الناس ليقدموا لهما الاحترام وللهيكل الهدايا.

وعاش الكاهنان بالهناء والراحة سنين طويلة، وفي ذات يوم تقدم بعض الفلاحين بهدية من البيض الجديد للشيخين، فوجدوا أمام الهيكل شجرتين كبيرتين لا عهد لهما بهما من قبل، فاستغربوا الآمر، وكان وجود الشجرتين العاليتين معجزة تنبئ بشيء عجيب، ودخلوا الضيافة الهيكل فلم يجدوا الكاهنين، ولم يقف احد لهما على اثر بعد ذلك.

وكبرت الشجرتان وعظمتا وعلتا وعاشتا عصورا كثيرة وأجيالا عديدة، وظلتا هناك بعد خراب الهيكل، وكانتا تظللان الغرباء والمسافرين، فيجلسون تحتها يقصون حديث فيليمون وبوسيس وسكان القرية الأشرار.