الأمثال العربية وقيمتها الفنية والتراثية - عصام خطيب

تمهيد

لقد تفوّق العرب في قول الأمثال، ثم عمل جامعوها على ترتيبهب في مجلّدات خاصة بها، حسب حروف الأبجدية العربية غالبًا، أوتبعًا لمواضيعها في بعض الأحيين.

لقد تزامن جمع الأمثال العربية واقترن بجمع الشعر والأخبار وسائر عناصر التراث العربي، وذلك في عصر بني أمية الذين عرفوا بتعصبهم للقوميّة العربية.

وكان أول المبادرين إلى هذه المهمة الشاقة الشائكة المفضّل الضبي في القرن الأول الهجري حيث جمع كما لا يستهان به من الأمثال العربية في كتابةّ "أمثال العرب" ثم تلاه أبو عبيدالقاسم من سلام المتوفي سنة 223هـ/838 مـ وكان تلميذًا للعلم اللغوي الأصمعي، وقد عرف كتابه باسم "كتاب الأمثال". وقد قام فيما بعد أبو عبيد البكري بشرحه في مؤلفاته "فصل المقال في شرح كتاب الأمثال لأبي عبيد بن سلام" مصنّنفًا أمثال أبي عبيد في أبواب حسب موضوعاتها.

وفي القرن الرابع الهجري يطل علينا أبو هلال العسكري بكتابه "جمهرة الأمثال"، ويلقى أبو الفضل الميداني بسهمه في هذا الميدان فيقتنص منها مجموعة لا يستهان بها أودعها كتابه القيم "أمثال العرب".وقد توفي الميداني سنة 518هـ/1124مـ، فالزمخشري المتوفي سنة 538هـ/1144مـ في كتابه "المستقصى من أمثال العرب". كما جمعت الامثال من أشعار حكيم الشعراء وشاعر الحكماء المتنبي وغيره، ومن الكتاب المغرق في الاليغورية والخيال إلى جانب الفطنة والدهاء والموعظة الحسنة وجودة السرد والحوار "كليلة ودمنة".

ومن أبيات الشعر التي جرت مجرى الأمثال:

يقولون لي: ما أنت في كل بلدة

                    وما تبتغي؟ ما أبتغي جلًّ أن يُسمى

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها

      فرجت وكنت أظنها لا تُفرج

ما طار طير وارتفع

                                       إلا كما طار وقع

بذا قضت الأيام مابين أهلها

                             مصائب قوم عند قوم فوائد

(المتنبي)

 

لماذا جمعت الأمثال العربية؟

إن دوافع جمع الأمثال العربية متشعّبة، يمكننا إجمالها فيما يلي:

1.حفظها من الضياع واللحن بعد امتزاج اللسان العربي بالأعجمي.

2.تعليم وتلقين أبناء الذوات والخلفاء وسائر أفراد الطبقة الأرستقراطية، التي بدأت تتبلور في عصر بني أميّة، اللغة العربية الفصحى الخالصة من الشوائب اللحن وغرس القيم العلربية المعنويّة واللاجتماعية والتاريخية والفكريّة الأصلية في عقوبهم ووجدانهم. فالأمثال تعكس عقليّة الشعوب، كما أنها، وخاصة الأمثال الإ سلامية، تعتبر عنصرًا مغذّيًا للأطفال بما تحمله من مكارم الأخلاق: كالكرم والشجاعة والجرأة واحترام الولدين والتعاون وحقوق الجار والصديق من الإعانة والإكرام.

3.أضف إلى ذلك أنّ الأمثال تعتبر مادة خام للبحث العلمي الفيلولوجي (Philology) – البحث المقارن للنصوص الأدبية من فترات مختلفة، والمورفولوجي (Morphology) – البحث في مبنى الكلمة (علم الصرف)، وكذلك الفيلولوجي (Philology) – لبحث في الأصوات والحروف اللغوية وكيفيّة تطورّها في اللغة واللهجات عبر العصور.

4.علينا أن نذكر أيضًا أنّ الأمثال مبطّنة عن قيم سيكولوجيّة وفولكلوريّة وقوميّة جديرة باهتمام الباحثين.

 

عُمر الأمثال

لقد قُسّمت الأمثال العربية إلى مجموعات حسب التي قيلت فيها.

1.الأمثال القديمة: وتشمل الأمثال الجاهلية والإسلامية حتى نهاية القرن الثاث الهجري.

2.الأمثال الجديدة أو المولَّدة: وهي التي جُمعت وأضيفت إلى الأمثال القديمة في مجموعات الأمثال المُشار اليها آنفًا،منذ القرن الرابع الهجري، وهذه الأمثال التي زاحمت الأمثال القديمة جمعها الميداني،مثلاً في كتابه "مجمع الأمثال" وأفردها في النهاية كل فصل من فصول الكتاب.كما أن الأمثال التي جمعت من دواوين كبار الشعراء، كالمتنبي ومن بطون كتب إبداعية أخرى كـ "كليلة ودمنة" تصنّف ضمن إطار هذه المجموعة.

3.الأمثال الحديثة: ونقصد بها الأمثال التي تمّ جمعها في عصر النهضة،  ومنها ما ورد باللهجة العامية كما فعل سلام الراسي اللبناني خلال العقود القليلة الماضية. كما تمّ في العصر الحديث جمع أمثال عربية ومقارنتها مع أمثال أخرى، كما فعل فريحة اللبناني الذي قارن الأمثال العربية اللبنانية بما يقابلها من أمثال باللغتين الفرنسية والإنجليزية، ومقابل ذلك تُرجمت بعض الأمثال العربية الى الفرنسية، وبالعكس، لغاية تعليمية تهذيبيّة، كما فعل أحمد أمين مثلاً.

ومن مجامع الأمثال التي صدرت في القرن التاسع عشر الميلادي: ثلاثة مجلدات للمستشرق فريتاج، حيث جمع وترجم أمثالاً عربية قديمة التقطها من مجمع الأمثال للميداني للغة اللاتينية.

ومع انتشار اللهجة العامية وسيادتها على ألسنة العامة في العصر الحديث برزت إلى الوجود أمثال عربية عامية، وقام أحمد تيمور بجمع بعض هذه الأمثال وشرحها وتفسيرها.

وحذا حذوه سعيد عبود الذي عمل على جمع الأمثال الفلسطينية العاميّة وترتيبها حسب الحروف الأبجدية، وكذلك فعل علي الخليلي وعيسى عطا الله وسليم عرفات.

وثمة مجموعات للأمثال حسب البلدان: كالأمثال اللبنانية التي اختص بحصرها الفغالي وسلام الراسي، وأمثال مصرية وسورية وسودانية.

وقد أظهر الباحثان دافيد سجيف ويعقوف لنداو في كتابهما "ספר הפתגמים" أوجه شبه كثيرة مثيرة للإعجاب بين الأمثال العربية والعبرية، على الرغم من أن الشعبين عاشا في فترات وأماكن مختلفة – ما عدا العصر القديم – وهذا الموضوع جدير بالبحث والتمحيص، كما يقرر المؤلفان في كتابهما الذكور. وعلى سبيل القصر لا الحصر نورد المثل التالي:

"אי אפשר לשני מלכים שישתמשו בכתר אחד"

                                                (עפ"י תול'ס)

 

1.لا يمكن لملكين بتاج واحد (ترجمة).

2.لا يُجمع سيفان في غِمد (الميداني 2، 235).

3.المركب اللّي لها ريّسين بتغرق.

4.بطيختين باليد ما تنمسك (مثل عامّي).

5.راسين بعمامة مش ممكن (مثل عامّي).

ومن الأمثال العاميّة السائرة:

سيل الزيتون من سيل كانون.

السياسة ما إلها دين.

السّنة ورا الباب.

الهريبة ثلثين الهزيمة.

همّ البنات للمَمات.

أعمى ما بقود أعمى.

من زمان هالقمر ما بان.

مثل الثوم: مأكول مذموم.

إن نام الراعي بيرعاها الذيب.

ما حدا أحسن من حدا.

أبو زيد خالو.

 

مصادر الأمثال العربية القديمة

لقد عرف العرب الشعر والخطابة والوصايا، ومن السهل نسبها إلى قائلها.

أما فيما يتعلّق بالمثل فالأمر جد صعب. إذ أن المتمثّل لا يعنيه من قائل المثل، وإنما معنى المثل وأصلهز كما أن المثل أكثر الألوان دورانًا بين الناس: فكثير من الأمثال رويت  دون نسبة إلى قائلها، وعليه فقد اختلط بعض القدم بالمولد والحديث.

ولكن ثمّة خصائص تميّز المثل الجاهلي والإسلامي والمولدي وسنأتي على ذكرها لاحقًا.

وفي هذا السياق يمكننا أن نفيد أن بعض الأمثال قد تمّ نقلها عن عامة الشعب: كالرعاة والفلاحين، ثم انتشرت على ألسنة العامة كافة، وبعضها تفوّه بها الأدباء والمفكرون والخطباء والمتفوّهون: كأكثم بن صيفي وقس بن ساعدة الأيادي والنبي محمد  (صلعم) وعلي بن أبي طالب (خاصة في كتاب نهج البلاغة) والسيد المسيح، كما كان للقمان الحكيم كمّ لا يستهان به من الأمثال القديمة.وتتفاوت الأمثال من حيث قيمتها الفنية وفقًا لمصادرها: فأمثال العامة تفتقر إلى العناصر الفنيّة والبلاغية التي تؤدي المعنى الدقيق الصحيح، أما أمثال المفكرين والأدباء فتفوقها فصاحة وبلاغة وتنميقًا وصقلاً. كيف لا؟ وهي من انتاج أصحاب الصنعة وأساطين البلاغة الذين رصَّعُوا أمثالهم بقيم موسيقية تعين على تذكرها واستمراريتها: كالسجع والجناس والطباق، وبألوان من القيم التصويرية: كالتشبيه والاستعارة والكناية والتمثيل. ومن هذا اللون الفني نذكر على سبيل الحصر لا القصر أمثالاً منتقاة:

كالمستجير من الرمضاء بالنار

وراء الأكمة ما ورائها

في الجزيرة تشترك العشيرة

لا تكن رطبًا فتُعصَر ولا صلبًا فتُكسَر

الأمثال أدلّ على حياة الشعب من الشعر لأنها منبثقة منه. زد على ذلك أنّ الأمثال مبطّنة عن قيم معنوية؛ فهي تعكس عقليّة الشعوب كونها مرآه لحياتها من جوانب كثيرة لها:

فثمّة أمثال ذات قيم تاريخية:

اليوم خمر وغدًا أمر

                             (جزاء سنّمار)

 

والبعض الآخر ذات قيم اجتماعية:

إنّ البغاث بأرضنا يستنسر.

أجود من حاتم.

اُنصر أخلك ظالمًا أو مظلومًا.

لا في العير ولا في النفير.

بل إنّ بعض الأمثال تتعدّىالرؤية إلى الرؤيا الفكرية المستقبليّة الواعظة والمنبّهة:

إن في الحسن شقوة.

بهم داء الضرائر.

أمّا في العصر الإسلامي فقد تشبّعت الأمثال بروح الإسلام وبقيم الدين الحنيف:

أفحكم الجاهلية تبغون؟

رأس الدين التقوى.

أكذب من مسيلمة.

لافضل لعربي على عجمي إلاّ بالتقوى.

ويُشتَمُّ من الأمثال اللإسلامية هذه أن بعض الآيات القرانية، ولأحاديث النبوية الشريفة قد جرت مجرى الأمثال.

إذا أمنعنا النظلر في أمثال العصولر العباسية ولانحطاط والعصر الحديث، فسنجد أنها تصوّر التقلّبات والتطوّرات الفكريّة والسياسيّة والاجتماعية؛ فلا بدّ من مجاراة الواقع ومعايشتة:

لاتكن رطبًا فتعصر ولا يابسًا فتُكسر.

اليد التي لا تستطيع كسرها قبّلها وادعُ لها بالكسر.

 

تعريف المثل

المثل كلمة مشتقّة من مِثل، أي شِبه، لأنّ الأصل مأخوذ من الكلمة العبرية "משל" ببمعنى: "الحكمة السائرة". يذكر المبرّد في كتابة الكامل أنّ المثل مأخوذ من المثال وهو قول سائر يُشبَّه به حال الثاني بالأوّل؛ فالأصل فيه التشبيه:فقولهم "مثُل بين يديه" إذا انتصب ومعناه أشبه الصورة النتصبة، و"فلان أمثل من فلان" أي: أشبه بما له من الفضل فحقيقية المثل ما جعل كالعلم للنشبيه بحال الأوّل، كقول كعب بن زهير:

كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً

                             وما مواعيدها إلاّ الأباطيل

فمواعيد عرقوب علم لكل ما لا يصحّ من الواعيد.

ويقول ابن السكّيت: "المثل لفظ يخاف المضروب له ويوافق معناه معنى اللفظ" – شبهوه بالمثال الذي يعمل عليه غيره.

وأفاد غيرهما: سمّيت الحكم القائم صدقها في العقول أمثالاً لنتصاب صورها في العقول –  مشتقّة من المثول الذي هو الانتصاب:

مقتل الرجل بين فكه.

كَلِم اللسان أنكى من السنان.

ويرى ابراهيم النظام أنه يجتمع في المثل أربعة لا يجتمع في عيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية-فهو أي: المثل، نهاية البلاغة:

هذا الأمر لا ينتطح فيه عنزان.

وكلمة الأمر لا ينتطح فيه عنزان.

وكلمة المثل تعني الصفة أيضًا، أي: اشتراك الطرفين في صفة واحدة. الممثًّل به والممثًّل له، فيقال: مثلك ومثل فلان أي: صفتك وصفته.

وقال تعالى: "مثل الجنة التي وُعد المتَّقون ..."

سورة الرعد، أية 35، أي: صفتها.

ولشدّة امتزاج معنى الصفة به صحَّ أن يقال:

"جعلت زيدًا مثلاً.. والقوم أمثالاً".

ومنه قول تعالى: "ساء مثلاً القوم...".

فقد جعل القوم أنفسهم مثلاً.

وفي كتابه " الأمثال العربية القديمة" يفيدنا رودلف زلهايم أنّ الأمثال عند كل الشعوب مرآة صافية لحياتها، عاداتها، تقاليدها، أخلاقها وعقائدها وسلوك أفرادهم ومجتمعاتها. وهي أكثر انتشارًا وعمومًا من الشعر والخطابة، حتى قيل:

"أسيَر من المثل".

ويضيف بأنّ أصل المثل يتضمّنمعنى المماثلة، الانتصاب والعرض في صورة حسيّة. كما أن السمات الجوهرية للمثل عند السلميين هي سمات المقارنة الجوهري، ولذلك أسموه مثلاً من التمثيل، أي: تشبيه شيء بشيء آخر.

ويعرف أبو عبيد القاسم بن سلام (ت:224مـ) المثل في مستهل "كتاب الأمثال" بأنها "حكم العرب في الجاهلية والإسلام، وتبلغ بها حاجاتها في المنطق بكناية غير التصريح: فيجمع لها بذلك ثلاث خصال: "إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه"ز

 

من المعلوم إلى المخصوص

لكي تتجلّى أمامنا صورة واضحة مشرقة لا بدّ لنا من التمعّن في ثلاثة من مجامع الأمثال:مبناها ومحتوياتها وأقوال مؤلفيها، وذلك من باب التخصيص بعد التعميم وإضافة ما فاتنا إفادته عن المثل:

1-كتاب "جمهرة الأمثال" لأبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري. ت. 39هـ. يشير العسكري في مقدمة كتابه إلى نوع المثل "القديم والمولّد (المحدث) ومن أمثال العامية والثل المبتذل في العامية" وهو يعرض رأيه في شرح المثل بشيء من الاختلاف عن رأي العلماء الذين نقل عنهم، ويعتمد في شروحه على الأخبار وآراء علماء اللغة مثل: عمرو بن العلاء والمفضل الضبِّي والمبرِّد وابن السكّيت وابن الإعرابي والفرّاء والكسائي وابن الأباري وغيرهم. ويرى أن أصل المثل التماثل بين الشيئين في الكلام، أي: التشابه.

لقد اهتم العسكري بجمع الأمثال التي تتميّز بالفخامة والجمال والقبول والألفاظ القوية "ليخف استعمالها وليسهل تداولها" كما يعلّل اهتمامه هذا في مقدمة كتابه.

ويرى العسكري بأن الأمثال لا تتغيّر، بل تُحكى على ما جاءت عليه عن العرب: فنقول للرجل كما للمرأة: "الصيف ضيّعْتِ اللبن"- فتُكسر التاء في الحالتين.. لأنها حكاية وردت فيها جملة المثل على ما أوضحناه. ويمييز الأمثال عن فنون الكلام الأخرى بأنّها تحتاج لفهمها ولإبانة عن معانيها إلى العلم بالغريب والوقوف على أصولها وأحاديثها ومضاربها.

اعتمد العسكري في جمع الأمثال في "الجمهرة" على كتاب "الدُرّة الفاخرة في الأمثال السائرة" لحمزة بن الأصبهاني، انطلاقًا من قناعته بقيمة المثل في الحجَّة والإقناع، وقد ساق الأمثال في تسعة وعشرين بابًا على نسق حروف المعجم الثمانية والعشرون، مضيفًا إليها بابًا في الأمثال المبدوءَة بالحرف (لا):

لا تهرف بما لا تعرف.

لا يذهب العرف بين الله والناس.

وبعد ذلك يورد ما أتى من هذها الباب (الحرف) على وزن "أفعل"، ولكنه حذف الأمثال المولدة السقيمة "ليتبرأ كتابه من العيب الذي لزم حمزة في اشتمالة على كل غث من أمثال المولدين وحشوة الحضاريين فصارت العلماء تلغيه وتسقط وتنفيه.

وكذا فعل الميداني (ت: 518هـ) في كتابه "مجمع الأمثال". فقد رتبه حسب أحرف المعجم العربي، ثم أود في خاتمة الفصل ما ورد على وزن أغعل من هذا الباب يُتبعها بطائفة من أمثال المولّدين.

إنّ عملية شرح الأمثال في هذين المجتمعين كما في سائر مجامع الأمثال القديمة، تقوم على أساس "الإسقاط الحسّي"، أي: ذكر الحادثة الأصلية التي قيل فيها المثل ليتّضح وجه الشبه بين الحالتين الممَّثل والمتمثّل لها. ويرافق ذلك شرح لغريب الكلام والظواهر اللغوية والنحوية بالاستعانة بشواهد من أشعار القدماء أو مالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وكذلك أقوال مأثورة وأوائل قائليها؛ فمن شأن ذلك إماطة اللثام وإزالة الإبهام عت المعنى المُراد.

إذا كان العسكري قد خصص الباب التاسعزالعشريت من "جمهلاة الأمثال" لذكر الأمثال التي تبدأ بالحرف (لا)، فإن الميداني في مجمع أمثاله يأبى إلاّ أن يجعل خاتمته (صلعم) وخلفائه الراشدين (رضوان الله عليهمأجمعين) مما ينخرط في سلك المواعظ والحكم والآداب:

يقلّب كيفية:يضرب للنادم على ما فاته-قال تعالى في الذكر الحكيم: "فأخذ يقلّب كفيه على ما أنفق فيها".

ومن أقوال عثمان بن عفّان: "يكفيك من الحاسد أنّه يغتّم وقت سرورك".

ومن كلام الفاروق: "اتَّقوا من تبغضه قلوبكم".

وفي خلال كل ذلك يتعرّض المؤلفان في مجمعيهما لبعض عادات العرب وقيمهم وأخبارهم وتراثهم. بل إن العسكرييتعدّى ذلك إلى إبداء آراء ، نقديّة تتعلّق بالأمثال والأشعار، تتناول جمال اللفظ وجودة المعنى أو رداءته وصوابه أو خطأه، الأمر الذي يميّز كتابه عمّا عداه من كتب الأمثال قاطبة.

ونأتي إلى أبو عبيد البكري الذي نهج في كتابه "فصل المقال" في شرح كتاب الأمثال لأبي عبيد بن سلام "نهجًا مغايرًا" لنهجي العسكري والميداني: فقد قسّم الكتاب إلى أبواب حسب المواضيع، كما فعل كثير من مدوّني الشعر القديم، مثلاً: في " باب الظلم في عقوبه البريء" يورد المثل: "ما لي ذنب إلاّ ذنب صُحْر" – وهي صحر بنت لقمان، وقد خرج أبوها لقمان وأخوها لقيم إلى مغيرين وأصابا ابلاً كثيرة فسبق لقيم إلى منزله، وكان لقمان حسد لقيم لأنه برز عليه- وذبَحه لإطعام أبيها بعد حضوره. فلّما قدم لقمان وعلم أنّ الطعام مما جلبته لقيم، لطم صُحر لطمة قضت عليها فصارت عقوبتها مثلاً لكل من يعاقب بلا ذنب له-يضرب لمن يجزى بإحسانه سوءاً.

 

بين المثل والحكمة

في مقدمة جمهرة الأمثال يفسّر العسكري اشتقاق المثل- كما أسلفنا باقتضاب-وها نحن نورد ما قاله كاملاً، لعلّنا بذلك نبيّن بعض ما يجمع أو يفرّق بين المثل والحكمة. يفول العسكري: "أصل المثل التماثل بين الشيئين في الكلام، كقولهم: كما تدرين تُدان. وهو من قولك هذا مثل الشيء ومثله. كما تقول: شِبْهُهُ وشبَهَهُ ثم جعلت كل حكمة سائرة "مثلاً".

ويشرح العسكري أيضًا معنى "ضرب" المثل، أي: "جعله يسير في البلاد" ومنه سمّي المضارب مضاربًا، ويقولون: الأمثال تُحكى، يَعنون أنّها تضرب علىما "جاءت عن العرب ولا تُغيَّر صيغتها.. ".

ومما سبق نشتمّ أن المثل هو الشبه: عبارة عن حكاية قصيرة تلقى بإيجاز ويبقى أصلها في الذاكرة ينتصف في كل حالة تشبهها، بعد أن يتمّ الإسقاط الحسّي؛ فثمّة مشابهة بين الحالة الحاضرة والحالة الأصلية السابقة.

أما الحكمة فهي الأصل لفظ حَكَمَة كوَرَقَة: وهي حديدة تعترض لجام الفرس فتمنعها من الجماح، ونقل هذا المعنى إلى الكلام الذي يمنع العقل من الضلال.

فالمثل  والحكمة كلاهما مبدآن عقليان، غير أن المثل تبقى حادثته الأولى في الذاكرة، بينما الحكمة فقد تنوسيت أسباب إطلاقها فأصحت مبدأ مشاعًا بين الناس على اختلاف أجناسهم ولغاتهم كقول طرفة:

عن المرء لا تسهل وسَل عن قرينه

فكل قرين بالمقرنة يقتدي

وهناك مثل فرنسي يماثله: "العصافير التي تتشابه تتلاقى وتتجمّع"، وكذلك: "الجنس للجنس ميّال"-فهذه الأقوال لا تتّصل بحادثة معينة، وهي إذا نُقلت إلى أية لغة يبقى مدلولها المقصود ومعناها المبتغى.

فمن الأمثال التي تعتمد على حادثة وإسقاط حسّي:

- سبق السيف العذل.

- مواعيد عرقوب.

- استنوق الجمل.

- أكفر من حمار.

- جزاء سنّمار.

ومن  الحكم المأثورة:

- إنّ أخاك من واسك

- مصارع الرجال تحت بروق الطمع.

- رُبّ عجلة تهبُ ريثًا.

 

هل الأمثال العربية القديمة فنٌ من فنون الأدب؟!

ينفي طه حسين في كتابه "في الأدب الجاهلي" السمة الفنية عن الأمثال، مشيرًا إلى عدم وجود نصوص نثرية فنيّة عند الجاهلين، ويأتي هذا في إطار شكّه في الأدب الجاهلي، ويدعم ادعاءه هذا بقوله: إنّ الأدب الجاهلي لا يعكس حياة الجاهليين من جميع نواحيها: الاقتصادية والاجتماعية والتجارية..

غير أن الدكتور محمد توفيق أبو علي في كتابه "الأمثال العربية والعصر الجاهلي" وفي حديثه عن فنيّة الأمثال الجاهلية في هذا الكتاب، يدحض ادعاء طه حسين، ويحاول أن يثبت أنّ الأمثال الجاهلية تحوي عناصر فنيّة، أهمها:

1-الصور الفنيّة الناتجة عن الخيال والاستعارة والتشبيه، وهي بذلك قريبة من النثر الحديث، مثل: عقرة العلم النيسان.

2-الإيجاز: فالبلاغة الإجاز؛ وفي هذا إيحاء وهي سمة من سمات الأدب، إذا لم يكن إيحاء فثمة بساطة، مثل: إنه لساكن الريح.

3-التفسير: المثل يقبل تفسيرات متنوعة كالشعر الصوفي مثلاً. وهل الأدب الاّ طلاسم وألغاز لا تجلوها إلا الذاكرة والذكاء والعمق الثقافي الإنساني؟

4-الإسقاط الحسّي وارتباطه بالحياة والواقع المعيش آنذاك.

5-الواقعية: فالمثل ينتقد الواقع غي بعض جوانبه ويبرز قيمه ومفاهيمه وأثرها على سلوك الأفراد، كما أنه يرى المستقبل على ضوء الحاضر. إذا لم يكن كل ذلك فنًا فما هو الفن؟ وما هي مقوّمات؟

6-المثل مرآة لحياة الجاهلية على مختلف جوانبها: الاجتماعية والاقتصادية والتجارية والفكرية: وهل الأدب بحقّ إلاّ مرآة وانعكاس لما يجري في مجتمع ما، بل في المجتمع الإنساني كافة في عصر العولمة هذا؟

ومن يمعن النظر في الأمثال التالية يستطيع أن يميّز فيها المقوّمات الفنيّة المبيّنة آنفًا:

جاور ملكًا أو بحرًا.

آكل من الحوت.

لا يُحسن العبد الكرّ إلاّ الحلب والصرّ.

لو ذات سوار لطمتني.

صحيفة المتلمس.

إنّ ما بيّناه من أمثال وحِكم ماهو إلاّ غيض من فيض من تلك الفنون الأدبية القديمة التي عكست قيم ومفاهيم وفكر وتاريخ المجتمع العربي القديم، وكيف لا؟ وهي جزء لا يتجزأ من التراث الأدبي العربي. لا شك أن هذا الجزء خصب بما يحويه مع إسقاطاته الحسيّة من بذور أدبية ذات أبعاد اجتماعية فكرية دينية وحتى سياسية، بل عناصر فنيّة أيضًا ونقصد بذلك الحبكة ومكوناتها من شخوص وتأزم وصراع وتوتر وحل وفكرة وإن كانت ضحلية مبسّطة، كما لاحظنا في قصة صحر بنت لقمان الُمشار إليها آنفًا.

والسؤال اذي يطرح نفسه الآن:هل اشتغلّ أدباؤنا المعاصرون هذا اللون الأدبي في أجناس أدبية أكثر رحلبة كالقصة القصيرة والرواية مثلاً؟

فقد وُظّفت الأمثال والحكم والأقوال المأثورة بأنواعها المختلفة في فن المقالة إلى جانب النوادر الأدبية والطرائف، خاصة وأنّ البحث الأدبي المقارن يشير إلى أدبنا المعاصرة، بل أن القصة القصيرة المعاصرة التي نمت في الغرب واستجلبت إلى أدبنا المعاصر، مل هي إلاّ تطوير لأدب الكُدْية الإسبانية الذي تأثر بدوره بفن المقامات العربية، كما علينا ألاّ ننسى أمثال لافونتين الفرنسي، التي ترجمها وأبدع فيها أحمد شوقي، والشبه الكبير بينها وبين أمثال "كليلة ودمنة"، بل أيضًا بينها وبين الحكايات والقصص التي ضربت فيهاالعديد من الأمثا كحكاية الأسد والثيران المختلفة الألوان والتي ضرب فيها المثل: "إنما أكلت يو أكل الثور الأبيض" أو "إن لله جنودًا منها العسل".

أضفنا إلى ذلك أن المثال من شأنها أ، تغذّي القصة المعاصرة بعنصر التداعي، وهو من العناصر الشائعة في القصة الفنيّة الحديثة.

كما شدّ انتباهي توظيف الأمثال في بعض القصص العربية الفنيّة المعاصرة كقصة "الصبي الأعرج" لتوفيق يوسف عواد. إذ استهلّ قصته المذكورة بالمثل: "كل ذي عاهة جبّار"، بل ان محمد نفاع أحد كتّابنا المحليي قد اتخذ من المثل "الله أعطى والله أخذ" عنوانًا وفكرة أساسية لإحدى قصصه الواقعية النقديّة الاجتماعية.

كما سبق وأشرنا إلى توظيف الأمثال في مقامات الهنمذاني والحريري كوسيلة لدعم وتقوية حجّة المكدّ في المقامات خاصة وأنّ الأمثال تتميّز بخصائص فنيّة: كالبلاغة والإيحاء المكثف وإصابة المعنى الدقيق وحسن الكناية، وفي بعض الأحيان لا تخلو الأمثال والحكم من سخرية لاذعة ودعابة هادفة.

وثمة قصص للأطفال استوحيت من القصص التي حيكت حول الأقوال المأثورة والأمثال، بل وعنونت بها، بعدأن بُسّطت لغتها واستُرعي في إخراجها وأسلوبها مستوى النضج العقلي للأطفال في أجيال مختلفة: كموسوعة الأغاني الشعبية الفلسطينية من عمل د. عبد اللطيف البرغوثي من جامعة بير زيت ومن إصدار مجلة "الحياة للأطفال" الحيفاوية.

ويا حبذا لو استغلّت هذه الأمثال في أعمل أدبية وقصصية ذات مستوى فنّي راقٍ وذات بُعد الأمثال وعمقهل؛ فهي من الشعب ولإلى الشعب ومن الإنسانية إلى اللإنسان كافة، ويجب ألاّ تقتصر على قصص الأطفال فحسب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المصادر والمراجع:

العربية:

1.                                    الفن ومذاهبه في النثر العربي. ضيف شوقي، 1971. دار المعارف في مصر.

2.                                    الأدب القصصي عند العرب. سليمان موسى, 1960. دار الكتاب اللبناني، بيروت,

3.                                    تاريخ الفكر الأندلسي. (ترجمة حسن مؤنس). باثيا أ، ج. 1955.القاهرة.

4.                                    فن المقامات بين المشرق والمغرب. دز يونس نور عوض، 1979. دار القلم، بيروت.

5.                                    المقامة. ضيف، شوقي، 1954. دار المعارف بمصر، القاهرة.

6.                                    النثر الفني في القرن الرابع. مبارك، زكي، 1975. دار الجليل، بيروت.

7.                                    فن المثل العربي. طليمان، زكي، 1975. دار المعارف بمصر، القاهرة.

8.                                    تطوّر الأساليب النثرية في الأدب العربي المدسي. أنيس، 1974. بيروت.

9.                                    المستطرف من كل فن مستطرف، الأبشيهي، محمد بن أحمد، 1888.

10.                                    المكوّنات الأولى للثقافة العربية. إسماعيل، عز الدين، 1975. بيروت.

11.                                    الدّرة الفاخرة في الأمثال السائرة. الأصبهاني، حمزة؛ تحقيق عبد المجيد قطامش، 1971. دارالمعارف بمصر، القاهرة.

12.                                    الأغاني. الأصغهاني، أبو فرج علي بن الحسين، 1981. دار الثقافة، بيروت.

13.                                    الأمثال العربية ومصادرها في التراث، ط1، أبو صوفه، محمد. مكتبة الأقصى، عمان.

14.                                    في الأدب الجاهلي. حسي، طه،1979. دار المعارف بمصر، القاهرة.

15.                                    تمثال الأمثال العبدري. أبو المحاسن محمد علي بن علي، تحقيق أسعد ذبيان، 1982. دار المسيرة، بيروت.

16.                                    الأمثال. الضبّي، أبو عكرفة عامر بن عمران، تحقيق رمضان عبد التواب، 1974. مجمع اللغة العربية، دمشق.

17.                                    كتاب الأمثال. أبو عبيد القاسم بن سلام، تحقيق عبد المجيد قطام، 1980. دار المأمون للتراث، المملكة العربية السعودية.

18.                                    فصل المقال في شرح كتلب الأمثال. أبو عبيد البكري. تحقيق عباس وعابدين، 1983 مؤسسة الرسالة، بيروت.

19.                                    المستقصي في أمثال العرب. الزمخشري، أبو قاسم جار الله محمود بن عمر، 1977. دار الكتب العلمية، بيروت.

20.                                    جمهرة الأمثال. العسكري، أبو هلال الحسن بن سهل، تحقيق أبو الفضل ابراهيم وقطامش، 1964. المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة.

21.                                    أمثال العرب. المفضَّل الضبِّي، تحقيق إحسان عباس، 1981. دار الرائد العربي، بيروت.

22.                                    الأمثال النبويّة. الغروري، مجمد، 1980. منشورات الأعلمي، بيروت.

23.                                    أمثال لبحديث. محمود، عبد المجيد، 1975. مكتبة دار التراث، القاهرة.

24.                                    الأمثال في القرآن الكريم. ابن قيّم الجوزية، أبو عبد الله بن أبي بكر، تحقيق سعيد محمد نمر الخطيب، 1981. دار المعرفة، بيروت.

25.                                    الأمثال الشعبية اللبنانية. يعقوب، إميل بديع. 1984. مطبعة جروس برس، طرابلس، لبنان.

26.                                    مضاهاة أمثال "كليلة ودمنة". اليمني أبو عبد الله، تحقيق محمد يوسف نجم، 1961. دار الثقافة، بيروت.

27.                                    الأمثال العربية القديمة. زلهايم، رودلف، ترجمة رمضان عبد التواب، 1982. مؤسسة الرسالة، بيروت.

28.                                    الفن الرمزي. هيجل، فريدريك، ترجمة جورج طرابيشي، 1978. دار الطليعة، بيروت.

29.                                    المثل المقارن بين العربية والإنجليزية. حقّي، ممدوح 1973. دار النجاح، بيروت.

30.                                    الأمثال العربية في قلب جزيرة العرب. الجهيمان، عبد الكريم، 1963. بيروت.

31.                                    الأمثال العاميّة. حرفوش، جوزف، 1914. المطبعة الكاثوليكية، بيروت.

32.                                    الأدب الشعبي. اللااسي، سلام، 1991. بيروت.

33.                                    الناس بالناس. الراسي، سلام، 1988. بيروت.

34.                                    قالوا في المثل. عطا الله، عيسى، 1985.القدس.

 

العبرية

1.     משלי ערב, אםף ותרגם יצחק בנימין יהודה, תרצ''ב/ צרצ''ד. הוצאת "דפוס הספר" ירושלים.

2.    מאגדות ערב. תרגם: יוסי רביקוב, 1966. צוצאת "נ. טברסקי", ת''א.

3.    כלילה ודמנה. תרגום: אברהם אלמליח, 1966. הוצאת "דביר", ת''א.

4.    ספר הפתגמים: עברי-ערבי. שגיב, דויד ולנדאו, יעקב, 1998. הוצאת "שוקן", ירושלים ות''א.

5.    אלף פתגם ופתגם בערבית מדוברת ובתרגום עברי. משה (מוסא) בן-חיים, 1991. הוצאת "אקדמון", ירושלים.

 

الإنجليزية

1.    Oriental proverbs Bower, john 1976, Luzac.

2.    A Gem Dictionary of Comparative Proverb, English-Arabic-French-Latin. DR. Kamal Khalaili 1994, Lebanon.

3.    An Arabic-English Lexicon (1-8), E. W. Lane, 1863-1893, London.