تربية واجتماع - جورج اسبر

 

 

17 آب 1989

تربية واجتماع

  "النهار" الأسترالية 

 

 في الوظيفة المهنية الاجتماعية

من ابرز مآخذ دعاة الرأسمالية على النظام الاشتراكي مأخذ يمكن اعتباره بحق من ابرز فضائل هذا النظام على الاطلاق، ونعني به مسألة اختيار وممارسة الوظيفة الوطنية ـ الاجتماعية، أي المهنة.
والتناقض الجذري في هذا المجال امر طبيعي، لانه ناجم عن الاختلاف الجذري في النظرة الى الوطن والى الوجود والى الحياة. وبدقة اكثر، الى نوع الوجود والحياة وشكلهما. فدعاة النظام الرأسمالي، بسبب فقدانهم كل حس فني وادبي وثقافي، لان الشأن المالي والشؤون الادبية والفنية والثقافية لا تنصهر، ولا يمكن ان تنصهر في بوتقة واحدة، يعتبرون ان جمع المال، وبكل الوسائل، مستخدما في ذلك سائر قواه الكيانية، الروحية والعقلية والنفسية والعاطفية والجسدية. ولا بأس بحسب اعتقادهم، في ان يهمل كل اهتمام آخر، لان الانصراف الى الشؤون الادبية والفنية والثقافية هو دليل على الخمول، ومضيعة للوقت، لان العمر (المكرس لجمع المال) اضيق من ان يصرف على التلهي بامور لا فائدة مادية منها، ولا مردود ماليا لها.
و "الوطن" الحقيقي بالنسبة الى هؤلاء، أي الجامعة بينهم على اساس وحدة الهدف والانتماء، هو خزائنهم وارصدتهم في المصارف، وافضل نظام اقتصادي هو الذي يسمح بوجود تفاوت كبير بين المردود المالي للوظائف الاجتماعية المختلفة، ليس بسبب الاختلاف في اهميتها الوظيفية ـ الاجتماعية (لان اكثر الناس تعسفا لا يستطيعون اثبات هذا الاختلاف)، بل بسبب سماح هذا النظام لفئة من المواطنين (أي اصحاب الاعمال الحرة)، بالتحكم باجور ورواتب فئة اخرى (هي فئة العمال والموظفين "غير الاحرارا)، وبالتالي باسعار وبدلات كل ما يحتاجون اليه من سلع وخدمات اساسية.
اما الوطن نفسه، أي الكيان السياسي ـ الاجتماعي الذي ينتمون اليه، فلا يهمهم منه سوى حاضره المعاش.
فتاريخ الوطن ومستقبله لا يعنيانهم بشيء، لان لهم من المال ما يغنيهم عن هذا الاهتمام، وحتى الحاضر نفسه فان نظرتهم اليهم نظرة تجارية لا اكثر. فالوطن، بحسب ابسط المفاهيم، يتألف من ارض وشعب وما يعنيهم من الارض هو المقدار الذي يمتلكونه منها، وما يعنيهم من الشعب هو عدد المستهلكين الذين يدفعون ثمن سلعهم وخدماتهم.
اما الاضطراب الاجتماعي، والانحلال الخلقي، وانحطاط المستوى التربوي والفني والثقافي والادبي، التي تنذر بالعواقب الوخيمة وبالمستقبل الاسود والمصير القاتم، فهي امور "مؤسفة" قد يجدون بعض الوقت للاهتمام بها وبحث اسبابها اذا اصابت نتائجها احد اولادهم. ولكنهم لن يلقوا اللوم، باية حال من الاحوال، على انفسهم ولا على النظام السياسي ـ الاقتصادي الذي يعيشون في ظله فهم اذ "يقتلون" انفسهم في جمع المال، انما يفعلون ذلك من اجل اولادهم، والنظام السياسي ـ الاقتصادي الرأسمالي هو افضل نظام ممكن، لانه يسمح للمواطن بان يعمل من اجل مصلحته الخاصة وليس من اجل مصلحة الحكومة، فيحقق الثروة اذا كان نشيطا وذكيا، بخلاف النظام الاشتراكي الذي يجعل المواطنين خاملين وفقراء يشتهون رغيف الخبز، اما مقولات بعض علماء النفس من ان الاطفال في حاجة الى الرعاية والعناية والتربية العائلية والوطنية، لا الى المال، فتضيع بين اقوال علماء النفس الآخرين الذين يؤكدون على الحرية. وعندئذ يختلط حابل مفهوم الحرية الاقتصادية (التي تعني ان الاقتصادي الحر يمكن ان يعمل ما يشاء دون حسيب او رقيب، لانه صاحب عمل حر) بنابل مفهوم الحرية الفردية (التي لا تعني ان الطفل يمكن ان يفعل ما يشاء دون رعاية وعناية وتوجيه)، فتدفع الاجيال الجديدة الثمن الباهظ لهذا الاختلاط.
اما اصحاب النظرة الطبيعية السوية الى الوجود والحياة، والى اولوية واهمية نوعها وشكلهما، وبالتالي اصحاب النظرة الطبيعية السوية الى الانسان والمجتمع والوطن، فيعتبرون ان على كل مواطن ان يقوم بالوظيفة الوطنية ـ الاجتماعية التي تتناسب مع قدراته ومواهبه الذاتية، وان على الكيان الوطني الذي ينتمي اليه هذا المواطن ان يؤمن له التدريب والتعليم المناسب لمواهبه اولا، والمركز الوظيفي ـ المهني ثانيا، والحماية من الهامش الكبير بين مردود الوظائف المختلفة ثالثا. وهكذا يستطيع كل مواطن، بعد ادائه دوره الاجتماعي ـ الوطني، وتقاضيه الراتب الذي يكفل الحياة الكريمة له ولعائلته، ان يكرس القسم الباقي من وقته للقيام بدوره العائلي في تربية اولاده (الى جانب دور المدرسة والمؤسسات التربوية المكملة لها). ومن ثم الانصراف الى الشؤون الفنية والادبية والثقافية، التي ترضي مواهبه وقدراته غير المهنية، وترفع مستواه الانساني، لانها ترفد قواه الكيانية المختلفة بخلاصة المسيرة الانسانية التطورية الحضارية، وتحقق التوازن الطبيعي بين دور هذه القوى ووظائفها، فلا تكون منصرفة بالكامل الى شأن واحد، هو قضاء الحاجات الغريزية عن طريق جمع المال لا غير.
وفي اعتقاد اصحاب هذه النظرة الطبيعية السوية الى الانسان، والى وجود وحياته ونوعهما وشكلهما، ان عملية التذوق الادبي والفني والثقافي مساوية في اهميتها لعملية خلق هذه الاعمال الانسانية الاساسية ـ ولذلك تكون هذه النشاطات متوافرة للجميع بالمجان. او ببدلات رمزية ولكنها في جميع الاحوال تكون خاضعة لانواع من الرقابة الذاتية والعامة لكي تبقى محافظة على مستواها الرفيع، فلا تنحدر الى منزلة الاعمال الرخيصة التي تسيء الى الكيانات الانسانية الفردية والعامة ولا تخدمها باية حال من الاحوال.
ولذلك لا يقبل اصحاب هذه النظرة بتقسيم الاعمال الفنية والادبية بحسب اعمار المشاهدين والسامعين والقراء. واذا كان ادب الاطفال مطلوبا ومرغوبا فيه، بسبب خصوصية هذه المرحلة وكونها مرحلة نمو في القوى الكيانية، فانه لا يعني وجود فنان وآداب محرمة على الاطفال، فالعمل الفني والادبي الطبيعي والسوي لا يمكن ان يسيء الى الاطفال، حتى ولو لم يكن موجها اليهم، او اذا لم يرغبوا في مشاهدته لبعده عن عالمهم واهتماماتهم.
ان ارتفاع المستوى التربوي ـ الثقافي، وما يرتبط به من الشؤون الخلقية والفنية والادبية هو وحده مقياس الرقي والتقدم. اما التطور في العلوم المادية فلا يعني شيئا في هذا المجال، لان مقاييس الحضارة لم تكن يوما، ولا يمكن ان تكون من خارج الكيان الانساني الفردي والعام. فالعلوم المادية، وان تكن من النتاجات البشرية المهمة، لا تصلح لان تكون معيارا للحكم على الانسان وذلك بسبب الوظيفة المادية التي تؤديها، واختلافها عن الوظيفة الكيانية التي تؤديها العلوم الاجتماعية والفنون والآداب. فعلاقة الانسان بالعلوم المادية هي علاقة محاكاة لا غير، لانها قائمة على التقليد. اما علاقته بالعلوم الاجتماعية والفنون والآداب فانها علاقة تمثل، لانها تقتفي التذوق فالاستيعاب فاعادة الخلق.
ولذلك يستطيع كل انسان استخدام نتاجات العلوم المادية من اجهزة معقدة وآلات ضخمة بحركة بسيطة، كلمسة زر او ما شابه فيما يحتاج الى جهود اكبر وعمليات اكثر تعقيدا لتحقيق مبدأ تربوي او خلقي بسيط، او لتمثيل صورة ادبية او فنية واحدة واظهار الجمال الكامن فيها عبر سلوكه الشخصي.
والاهم من كل ذلك ان ارتفاع المستوى التربوي ـ الثقافي دليل على الاستقرار الاجتماعي وضمان اكيد لقدرة الوطن على الاستمرار والتطور والتقدم. بينما لا يستطيع احد التكهن بمصير وطن يعاني من الاضطرابات الاجتماعية التي تبلغ حد ارتكاب مجزرة ضد اطفال مدرسة ابتدائية، ناهيك عن البطالة واعمال العنف وتعاطي المخدرات، التي تزداد يوما بعد يوم رغم التقدم العلمي الهائل والغنى المادي الفاحش، ورغم ما يقال عن الجهود التب تبذل للحد منها، وهذا امر طبيعي لان التغييرات الاجتماعية ـ الانسانية (نحو الاسوأ او نحو الافضل) لا تتم بكبسة زر.
ومن هنا اهمية اختيار الوظيفة الوطنية ـ الاجتماعية، ودور هذه العملية المثلثة الوجوه (تحديد القدرات والمواهب وتنميتها ثم اطلاقها) في الحد من المشاكل والاضطرابات الاجتماعيؤة ومن هنا الاختلاف الكبير بين البلدان الاشتراكية والرأسمالية، في تحديد مفهوم الوظيفة الاجتماعية وفي اختيارها والاعداد لممارستها ومن هنا عدم سماح البلدان الاشتراكية بالاعمال الحرة. بسبب واحد وبسيط، وهو تنافي مبدأ العمل الحر مع مبدأ وجود الوطن نفسه، أي مع مفهوم المواطنية، وبالتالي تنافيه مع الحرية الفردية والاجتماعية على السواء. فالشرط الموضوعي الاساسي لممارسة الحرية، ان يكون الاختيار طبيعيا وممكنا ومن غير الطبيعي ان تكون حاجات المواطنين الاساسية واجورهم ورواتبهم خاضعة لارادة ورغبة فئة قليلة منهم.
كما انه من غير الممكن ان يكون جميع المواطنين اقتصاديين احرارا او ارباب عمل، ولذلك من الافضل ان تكون الدولة رب العمل الوحيد. وتؤمن التدريب الملائم للقدرات والمواهب، حتى يقوم كل مواطن بالوظيفة التي تكفل نجاحه الاجتماعي.
وتحضرنا في هذا المجال حادثة معبرة، فخلال العام الماضي وبعد انتهاء دورة الالعاب الاولمبية الصيفية التي جرت في كوريا الجنوبية جمعتنا الصدفة برجل استرالي من اصل الماني شرقي. فاثنينا امامه على النتائج التي حققها الرياضيون الالمان الشرقيون باحتلالهم المركز الثاني بعد رياضيي الاتحاد السوفياتي وامام رياضيي الولايات المتحدة والمانيا الغربية وسواهما، ولكننا فوجئنا بردة فعله الغريبة، اذ اعتراه ما يشبه الجنون، فراح يشتم هؤلاء الرياضيين وحكوماتهم، واصفا اياهم بالخمول والتنبلة ومما قاله ان الحكومات الاشتراكية تدفع لهؤلاء الرياضيين رواتب مماثلة لرواتب الموظفين والعمال. وتقدم لهم مساكن للاقامة كما تفعل المؤسسات والمصانع لعمالها وموظفيها، دون ان يقوم هؤلاء الرياضيون باي عمل، على حد زعمه.
والواقع ان هذا المأخذ هو الميزة الاساسية للنظام الاشتراكي. فاذا كان احد الطلاب قد اظهر مواهب وقدرات جسدية بارزة، فما هو المانع الحقيقي في ان توفر له الحكومة مدرسة رياضية ليتلقى فيها العلوم النظرية والتدريب التطبيقي، وان ترسله فيما بعد ليتبارى مع سائر رياضيي العالم؟ وما هو المانع الحقيقي في ان ينصرف هذا الانسان الى تدريس الرياضة وتدريب الاجيال الجديدة بعد ان يبلغ عمرا معينا، أي بعد ان يصبح غير قادر على التباري؟
بل ما هو المانع الانساني والوطني والاجتماعي في ان ينصرف الانسان الموهوب جسديا ورياضيا الى تعاطي الرياضة والتدرب او التدريب، وان يكون له راتب يؤمن له الحياة الكريمة، فلا يضطر هو او الاتحاد الرياضي الذي ينتسب اليه، الى جمع الصدقات والتبرعات من الشركات التجارية، ولا يضطر ايضا الى فتح محل تجاري حتى ليبيع الالبسة الرياضية اياها؟
والحكومة التي ترعى هؤلاء الرياضيين، وتعتبر ان الرياضة وظيفة اجتماعية حقيقية، لفوائدها الجسدية والمعنوية والروحية والنفسية، الا تقدم الرعاية نفسها لسائر المواطنين؟ الا تؤمن للموهوبين فنيا مدارس فنية؟ وللموهوبين طبيا مدارس طبية؟ وللموهوبين تربويا مدارس للمعلمين؟ الخ..
وما يريد أي انسان طبيعي سوى من حكومته، اكثر من ان تؤمن له المدرسة المناسبة لمواهبه وقدراته، ثم الوظيفة المهنية ـ الاجتماعية التي تتلاءم معها؟
وهل الحرية الحقيقية تعني ان يكون بعض المواطنين اقتصاديين احرارا وبعضهم الآخر، او قل اكثريتهم، عمالا وموظفين غير احرار؟
هل الحرية الحقيقية تعني ان يسمح لبعض المواطنين ممن يقومون بوظيفة اقتصادية بالتحكم بسواهم من المواطنين. من خلال تحكمهم باجورهم ورواتبهم وباسعار السلع والخدمات الاساسية التي يحتاجون اليها؟
وهل الحرية الحقيقية تعني ان تنتهك كل مفاهيم الوطن والوطنية والحكم والدولة، وخصوصا حكم الشعب بالشعب للشعب، فتتحول الحكومة الى مؤسسة خاصة، فتصرف عمال السكك الحديدية والمدرسين بالآلاف من وظائفهم بسبب العجز في الموازنة؟
واين يكون قد تبخر مبدأ حكم الشعب بالشعب للشعب، عندما تصير الحكومة عاجزة عن تأمين موازنة مالية لشأن هام كالتربية، فيما لا تعجز اية شركة خاصة عن جني الارباح، سواء اكانت داخل البلاد ام "اوف شور"؟.
والاهم من كل ذلك هل الحرية الحقيقية تعني ان يعتبر سلوك الانسان، وخصوصا الطالب، شأنا خاصا به دون سواه؟
سننقل فيما يلي مقطعا من موسوعة "كتاب العالم" الاميركية حول التربية في الاتحاد السوفياتي فقد ورد في الصفحة 33 من الجزء العشرين: "يعلم الطلاب السوفيات ان التعلم هو اضمن سبيل للنجاح في بلدهم. فالذين يحرزون العلامات العالية يمكن ان يطمحوا الى تبوأ المناصب المهمة ولكن اضافة الى العلامات التي تمنح على المواد الدراسية المختلفة، ثمة علامات تعطى على سلوك الطالب داخل الصف وخلال النشاطات الجماعية بعد المدرسة (وهي خاضعة للاشراف الحكومي المباشر) والطلاب الذين ينالون علامات منخفضة على سلوكهم يمكن الا يسمح لهم بمتابعة التعلم".
لماذا؟ لان "النجاح" الاجتماعي هناك لا يقيم على اساس المال، بل على اساس النزاهة والاستقامة وبالتالي فان النزاهة والاستقامة (اضافة الى العلم والثقافة) هي سبيل النجاح.
لن نخوض هنا في مقارنة بين التربية في البلدان الاشتراكية ومثيلتها في البلدان الرأسمالية، بل سنكتفي بالاشارة الى بعض الاسباب الاساسية لتفوق الرياضيين الاشتراكيين. وللاستقرار الاجتماعي التي تعيشه بلادهم.
ان الدولة، سواء اكانت قائمة على اساس ايديولوجي عقائدي، او على أي اساس آخر، يجب ان توفر الرعاية الصحيحة والكاملة لابنائها. والاختلاف في الانظمة السياسية والاقتصادية يجب الا يكون سببا للاختلاف في المفاهيم التربوية، لان الحاجات الانسانية المادية (الغريزية) والكيانية (الروحية والعقلية والنفسية والجسدية والعاطفية) واحدة لدى جميع الناس. واذا كانت القوى الغريزية التي تضمن استمرار الحياة قادرة على القيام بوظائفهما تلقائيا ودون تدريب، فان القوى الكيانية التي على اساسها يتم تحديد نوع الحياة وشكلها، تحتاج الى عناية ورعاية وتدريب وتزويد بخلاصة المسيرة الحضارية الانسانية التطورية، وهذا ما يجب ان تقوم به التربية الصحيحة والسليمة ولذلك تشرف الحكومة في الاتحاد السوفياتي مثلا على سائر المؤسسات التي تؤمن الرعاية للاطفال منذ عمر عشرة اسابيع (اذا رغب اهلهم) وحتى نهاية تحصيلهم الجامعي، كما تولى عناية خاصة الى الشؤون الادبية والفنية والثقافية، وتعتبرها موازية ومماثلة للمواد الدراسية الاساسية. وثمة مدارس خاصة (لا نعتقد انه يوجد مثلها في أي بلد آخر) يدخلها اصحاب المواهب الفذة الذين يوضع لكل منهم منهج دراسي ـ تربوي خاص به، الخ..
اما التوسع في شرح مفهوم الحرية فقد ادى الى انحطاط المستوى التربوي ـ الثقافي في البلدان الرأسمالية فالى جانب الترفيع الآلي، وتدني الجرعات العلمية والادبية والثقافية، واهمال الشأن السلوكي، فان مدارس الحضانة غير مجانية، كما ان النشاطات التي تتم خارج المدرسة تحتاج الى نفقات باهظة يعجز الكثير من الاهل عن تحملها، ولذلك بات هنالك نوع من الطبقية التربوية ايضا.
ان الشطرنج، تلك الرياضة الفكرية العقلية المفيدة، تكاد تنقرض في البلدان الرأسمالية، فيما هي نشاط اساسي لطلاب المرحلة المتوسطة في الاتحاد السوفياتي. وكذلك حال سائر الفنون الراقية، كالموسيقى الكلاسيكية والباليه وسواهما.
ان انصراف الطلاب في البلدان الرأسمالية الى العمل خلال عطلة نهاية الاسبوع او الاجازات المدرسية هو بالنسبة الى المفاهيم التي تلقنوها، دليل على الرغبة في الاستقلال، وبالتالي ممارسة للحرية الشخصية ولكنه بالنسبة الى المفاهيم التربوية السليمة يؤدي الى افدح الاضرار فهم يقومون غالبا باعمال مرهقة لقاء بعض المال، ولكن تلك المرحلة من عمرهم هي مرحلة اخذ لا عطاء، فهم يحتاجون الى تنمية قواهم ومواهبهم والى غرس بذور الفن والادب والثقافة في نفوسهم، واذا تجاوزوا تلك المرحلة من العمر دون اكتساب هذه الصفات، يصير من المستحيل عليهم اكتسابها فيما بعد.
ولكن هذه هي نتيجة جعل المال مقياسا لكل شيء في الحياة فلا يعود امام الطلاب سوى العمل المرهق من اجل كسب بعض المال تحقيقا لحريتهم الشخصية واستقلاليتهم. واية حرية شخصية واية استقلالية؟ اهي لاثبات الذات تجاه الاهل؟ وهل الاهل اعداء ام اخصام؟ ولماذا يحتاج الانسان الى الاستقلال عن اهله، ولو كان استقلالا ماديا؟ واي نوع من العلاقة تقوم بين اعضاء هذه الاسرة؟
هذا ما سنجيب عنه في العدد القادم، قبل ان نختم هذه السلسلة بمقال اخير نلخص فيه اهم ما ورد فيها. فالى اللقاء.
جورج اسبر
("النهار" الأسترالية - 17/8/1989)