موسيقى الطبيعة- خير الدين عبيد، من مجموعته حديقة الألوان

 

غابت الشمس، فلبست الطبيعة، رداءها الأسود الجميل.‏

أطل معن برأسه، من نافذة غرفة المزرعة وصاح:‏

- جدّي... جدّي!!‏

- نعم يا صغيري، ماذا تريد؟‏

- لقد حلّ الظلام، وحان موعد ذهابنا إلى النهر، لنسهر على ضوء القمر، ألم تعدني بذلك؟.‏

- أجل.. ولكن بعد أن تضع إبريق الشاي والكؤوس في كيس.‏

ثم حمل الجد عكازه، ومضيا صوب النهر.‏

جلس الجدّ على حافة النهر، وقال:‏

- ألا ترغب بشرب الشاي، يا صغيري؟‏

- بلى.. الشاي لذيذ.‏

جمع الجدّ من حوله أعواداً يابسة، وأشعلها، ثم وضع ثلاثة أحجار، وركز الإبريق فوقها.‏

كانت النار ترسم على وجهيهما، وهجاً أحمر كذاك الذي ترسمه الشمس على وجه البحر، لحظة غيابها.‏

غلى الشاي، نصبّ الجد كأسين، إحداهما ملأى والأخرى نصفها.‏

نظر معن إلى كأسه، وقال ممتعضاً:‏

- لماذا صببت لي نصف الكأس، لقد صرت كبيراً، أما قتلت اليوم جرادتين؟‏

ضحك الجدّ وقال:‏

- الشاي ساخن، وأخشى أن يحرق فمك، هيّا ضع ملعقة سكر في كل كأس.‏

غرَفَ معن السكّر بالملعقة، وبدأ يحرك، بغتة انتبه إلى أمر.‏

كان صوت الملعقة في أثناء التحريك، مختلفاً بين الكأسين.‏

نقر بخفّة على حافّة كوبه، فصدر رنين حاد ثم نقر على حافّة كوب جدّه، فصدر رنين غليظ.‏

نظر إلى جدّه باستغراب قائلاً:‏

- هل سمعت يا جدّي، الملعقة تصدر موسيقا؟!.‏

ابتسم الجدّ، حكّ لحيته بأصابعه الخشنة، وقال:‏

- الموسيقى موجودة حولنا، وما علينا سوى سماعها؟‏

تلفت معن في كلّ الإتجاهات، سار نحو النهر غمس قدميه بمياهه، تناثر رذاذ ناعم، وعلا صوت خريره.‏

ركض صوب شجرة صفصاف، فسمع تسبيح أوراقها، وابتهال أغصانها. تطلّع نحو أعواد القصب، المغروسة كالرماح على ضفاف النهر فعلم أن صوت الصفير المبحوح، يخرج من أفواهها، كلما دخلت الريح إليها.‏

كانت الأصوات، تتداخل في أذنيه الصغيرتين فطرب لها، وتمايل، ثمّ بدأ يغنّي: "ورقات تطفر بالدرب‏

والغيمة شقراء الهدب‏

والريح أناشيد‏

والنهر تجاعيد‏

يا غيمة يا....."‏

توقف أحمد عن الغناء، أدهشه منظر القمر على حافة غيمة رمادية، ماسكاً بإحدى يديه عصا صغيرة، يحرّكها بعفوية، كأنّه قائد فرقة موسيقية بينما راحت الطبيعة، تعزف موسيقاها الأزليّة.‏